رامبرانت في خان أسعد باشا بدمشق

30 11

ملك البورتريه الشخصي الذي أرّخ حياته الذاتية في اللوحات!

لم يكن أحد يتوقع أن ابن الطحان المولود سنة 1606 ليس إلا مشروع فنان عالمي بامتياز. فرامبرانت كان قد أظهر موهبة مبكرة جداً في فن الرسم، هيأته كي يكون في طليعة التشكيليين العالميين، وذلك للخصوصية التي تمكن من بنائها خلال تجربته الطويلة من الاشتغال على تقنية الضوء والإغراق في رسم الوجوه.
في هذا الإطار وبمناسبة مرور أربعمئة عام على افتتاح القنصلية الهولندية في حلب، استضاف خان أسعد باشا معرضاً مصوراً لأعمال الفنان الهولندي الشهير رامبرانت ضم خمسة وثلاثين عملاً يعبر عن فترات مختلفة من مسيرته الفنية، التي من أبرز معالمها إغراقه في رسم البورتريه الشخصي لوجهه في المراحل العمرية والنفسية المختلفة التي مر بها كفنان وفيلسوف له الكثير من الآراء والمواقف والانطباعات، حتى إن تلك النرجسية الفاضحة التي يسوقها عبر رسمه لوجهه في أكثر من سبعين لوحة، يمكن أن تختزل إلى حد بعيد ذلك السخط والتقلب في حياته الذي أوصله إلى الإفلاس والغرق بالديون في نهاية المطاف.
يثير الكثير من النقاد الشكوك حول شخصية رامبرانت انطلاقاً من تأريخه الشخصي لذاته في تلك اللوحات الكثيرة التي رسمها والتي دأب فيها على تقديم البراءة الشديدة الوضوح في عينيه رغم الاتهامات التي تطلق بحقه على صعيد علاقته بالموديلات التي رسمها أو بالناس بشكل عام. فرامبرانت الفنان المتقلب والمزاجي يستطيع أن يسوق الكثير من أفكاره الكثيرة تلك عبر الوجوه التي رسمها لنفسه وكأنه يريد أن يؤكد حقيقة واحدة تتمحور حول أهمية الذات المحورية إذا صح التعبير.
تحمل لوحات رامبرانت لون القرون الوسطى وألوانها ورائحة الأحداث فيها، وتأتي كي تعرض هنا في خان أسعد باشا في انسجام تاريخي أضاف إليه سحر المكان الكثير من الخصوصية عند المتلقي. ورغم أن الصور المطبوعة لهذه الأعمال كانت من حيث تقنية العرض واستقبال الإضاءة لا تساعد على حسن المشاهدة والتصوير، وذلك بسبب انعكاس النور في بهو الخان بشكل كبير فوق اللوحات، إلا أن الجمهور التشكيلي السوري استطاع الحصول على تجربة عالمية مميزة في هذا الموسم الزاخر بالعروض والتظاهرات.
أتقن رامبرانت العمل على انعكاسات الضوء فوق الوجوه بشكل كبير، وتلك ميزة خصته بفرادة كبيرة عن جميع فناني عصره، حيث يمكن للتفاصيل أن تتلاشى في مناطق الظلمة كما يمكن لها أن تبتهج فتتضح أكثر في مناطق النور، وتلك تعد رؤيا لفكرة ما أراد الفنان إيصالها، أو هي لم تكن إلا مجرد انعكاس لحالته النفسية أو انطباعه عن البورتريه الذي يعكسه بالألوان فوق القماش.
رسم رامبرانت خلال حياته التي امتدت أكثر من ستين عاماً، مئات اللوحات استطاع من خلالها أن يترك الشيء الكثير في تاريخ الفن وتقنياته بشكل عام، ولأن الأفكار شكلت في الغالب محور اهتماماته حتى على صعيد البورتريه، قال النقاد إن رامبرانت يرسم الأفكار لأن في داخله فيلسوف يلون اللوحات ويعيد صياغة تعبيرات الوجوه بتلك الخصوصية الشهيرة لديه.
أبرز اللوحات التي رسمها رامبرانت فهي: "التاجر نيقولاس روتس" و"الشاعر جان كرول" و"امرأة شابة" و"رجل جالس على مقعد" ولوحات أخرى شهيرة جدا يقدر ثمنها بالملايين، مما أعطى الفنان زخمًا ماديًا كبيرًا جعله من أغنى أغنياء عصره، حتى أنه اشترى أهم منزل في المدينة. لكنه بعد وفاة زوجته لم تسعفه هذه الأموال للبقاء على قيد الشهرة، ولا حتى موهبته التي بدأت تخبو، حتى عاش في الظل وتراكمت عليه الديون، ليقضي حياته فقيرًا كما ولد.
يذكر أنه قد عاد للظهور مؤخراً البورتريه الذي رسمه رامبرانت لنفسه بعد قرون من الاختفاء تحت رسم لفنان آخر وأعوام من التحريات الفنية لإظهار اللوحة الأصلية التي يرجع تاريخها إلى القرن السابع عشر. وقد قام متحف رامبرانت باكتشاف اللوحة التي يعود تاريخها إلى عام 1634، وقد عرضت لأول مرة بعد سنوات من الترميم المضني بعد أن ظلت مطموسة لأكثر من 300 عام تحت لوحة رسمها فنان غير معروف لأرستقراطي روسي.
ويعتقد الخبراء إن رامبرانت كان يسمح لتلاميذه أن يرسموا على لوحات لم يبعها حيث من المعتقد أن واحداً أو أكثر منهم قد رسموا فوق اللوحة المكتشفة حديثاً، وقد تطلب الأمر أعوامًا للكشف عن غموض تلك اللوحة التي تصور وجه رامبرانت. فبعد إجراء اختبارات باستخدام وسائل الطب الشرعي ومن ضمنها الأشعة السينية، شرع الخبراء بحذر شديد في ترميم العمل الذي يوضح وجه الرسام الذي كان صغير السن آنذاك ويحمل توقيعه، ولم تعرف قيمة اللوحة مع أن أعمال رامبرانت عادة ما تساوي الملايين.
استطاع رامبرانت أنسنة النور، إذ يستطيع المشاهد العثور على أساليب مختلفة في التعامل معه وأهمها النور المنبعث من اللوحة ذاتها، إذ استند إلى هذا الأسلوب من أجل عكس حالة الوجه وتعابيره والتطلعات الداخلية لديه.
الغريب أن رامبرانت كان كلما ازدادت عليه الظروف قسوة، ازداد في التألق والعطاء إلى أبعد الحدود، حتى إن أجمل اللوحات التي رسمها كانت عندما ضاقت به الأحوال وتردت أوضاعه المعيشية كثيرا بعد وفاة زوجته ساسكيا، حيث وصل إلى نهايته التعيسة في عام 1669 فدفن في مراسم جنازة حقيرة وألقي بجسده في مقابر الفقراء والمتسولين في هولندا.


زيد قطريب

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق