لوحات فادي يازجي فضاءات مفتوحة على كل احتمالات الفرجة البصرية

14 تموز 2011

اعتمدت التقشـّف في اللون والاختزال في الشكل

تشكـّل تجربة فادي يازجي حالة متفرّدة بتنوعها من حيث أشكال التعبير واتفاقها على تقديم ما يخصّ طريقة تفكير التشكيلي المعروف بشدة ولعه بالتجريب في المواد والأدوات، وتنقلاته من فسحة إلى أخرى بحيوية ولياقة مصطحباً معه مجموعة شخوصه المحببين وبعض المفردات اللطيفة منذ بداية تجربته، والتي بقيت تظهر بين الفينة والأخرى بحسب ضرورتها في الكادر، الذي يبنيه التشكيلي عادة على شكل عمارة أنيقة يضغط فيها عناصره التي تدور في مربعات تعرف حدودها ومُشكـّلة مع مجاوراتها ما يشبه رقعة شطرنج يمثـّل فيها الحصان دور الملك وما تبقى جنود منكفئين مقتنعين بمصيرهم، تلك الشخصيات التي تتحدث عن سيرتها الذاتية من خلال لغة بصرية سهلة اعتمدت الصراحة والوضوح والمبالغة أحياناً في التعبير، وهذا ما جعل المتلقي يبحث في تلك الشخصيات عن بعض أشيائه وخصوصياته ومتعه التي يضمرها في داخله ظنـّاً منه أنه افتقدها في تفاصيل وزحمة الحياة.


من أعمال التشكيلي فادي يازجي

عندما تتحول المساحة في لوحات فادي يازجي إلى فضاءات مفتوحة على كل احتمالات الفرجة البصرية المقنـّنة، والتي اعتمدت التقشـّف في اللون والاختزال في الشكل، عندها تتعثـّر الرؤية أمام بصيرة المتلقي التي تبحث عن نشوتها عبر الجماليات التي تذخر بها اللوحة في أركانها المختلفة، من خلال تكثيف التعبير الذي يفيض من حساسية خطوطه التي تتباين بمدى شدّتها وبحسب موقعها وأهميتها من حيث الدلالة والقصد، أو من خلال اللون وهو يوشـّح بعض الشكل في المقدمة أو يتراجع إلى الخلفية بحسب ضرورته هناك، لمزيد من التعبير الذي غمرنا بفيض من المشاعر الإنسانية النبيلة، تصلنا من هيئات شخوصه وهي توزّع على الجميع ابتساماتها رغم الشقاء وما تركه الزمن من مرارة على وجوهها التي بقيت تلاحقنا، مندهشة، مسرورة، لطيفة وأنيسة، وأحياناً حزينة محبطة، راضية بمصيرها رغم محاولاتها الواضحة للإفلات من ذلك الأسر، ومن تلك الحجرات المغلقة إلى حيث الهواء والشمس.


من أعمال التشكيلي فادي يازجي

إن أهمية لوحة فادي اليوم تأتي من جملة عوامل لم تجتمع صدفة، فهي محصّلة بحث وتجريب دائم في كل ما يمكن أن يخدم التعبير فيها، ودائماً من أجل بعض الإضافة يسجـّلها هنا، وأحياناً عودة إلى الذاكرة يستضيف من خلالها بعض المفردات من كوادره القديمة كهيئات بعض الأشخاص المحبّـبين إليه من جدارياته الطينية، ومخلوقات تشبه المسوخ أو التعويذات التي تعوّدنا على مشاهدتها منذ معرضه الأول، بالإضافة إلى بعض الحيوانات اللطيفة مثل الطيور والقطط والخيل وغيرها، بينما تحضر مفردات الطبيعة الصامتة في بعض الكوادر، لتضمّ لوحته أو عمله الفني بالعموم كل هذه المفردات والعناصر مجتمعة مع بعضها لتشكّل ما يشبه البانوراما البصرية المدهشة من بساطة توليفها واتفاق تناقضاتها لحضور أبهى في المشهد، وهكذا تتجدّد تجربة التشكيلي يازجي مستعيدة في كل مناسبة عرْضْ حيويتها، من التراكم الثقافي البصري والمعرفي ومن السفر والاطلاع والحوار مع الآخر، والأهم برأيي بعد كل ذلك، البحث والتجريب الذي يقوم به في مختبره التقني «مرسمه الكائن في منطقة القشلة بدمشق القديمة» ، الذي يحتوي معظم ما يحتاج إليه الفنان في تحضير عمله الفني «لوحة كانت أم منحوتة».


من أعمال التشكيلي فادي يازجي

يستخدم التشكيلي فادي يازجي في لوحاته الأحدث أكثر من وسيط ومادة لتقديم رؤيته الفنية وتجسيد حلمه البصري من خلال أكثر من شكل للتعبير عن تلك الرؤى والتصورات، مثل الكراسي التي رسم عليها نفس موضوعاته المحبّبة إليه ولتستخدم في أمكنتها ولغاياتها، وهناك نموذج منه يستخدمه في المرسم منذ سنوات، بالإضافة إلى ما تبقـّى من تجربة الرسم على الأواني الخزفية والوسائد وغيرها من المواد الاستعمالية التي غصّت بالمفردات البسيطة والألوان الشفيفة المنسجمة بتداخل مشتقاتها وتدرّجاتها، والتي بدت بالنتيجة كأعمال فنية يدوية منفصلة ومحقـّقة للغاية الجمالية والتعبيرية، وهي دائماً مشغولة بحساسية تشكيلي مولـّع بالتجريب وتعكس بصدق أصالة انتمائها لثقافتنا البصرية المكتسبة أصلاً باللاّوعي من الموروث وما تعودنا مشاهدته أو معايشته أيام الطفولة، وهو مازال يزيّن بعض البيوت التي حافظت عليه إلى اليوم.

كما رسم التشكيلي على الخبز، مستفيداً من تأثير بعض الأختام التي تذكـّر بالخبز أو «القربان» المقدّس، الذي كان يقدّم على المذبح للتطهّر أو الصفح عن الخطايا في معتقدات عديد من الأديان عبر الزمن، وهي هنا جاءت كوسيلة للتعبير عن بعض الأفكار والهواجس التي شغلت اهتمام التشكيلي أكثر من غيره عن علاقة الإنسان بالحياة، أو ما بعد الحياة من تصورات أو فلسفة حول مصير الإنسان بعد الموت.




من أعمال التشكيلي فادي يازجي

إن ميزة فادي يازجي كرسام، أكثر ما تظهر في منحوتاته الجدارية «الرولييف» والتي يحفر فيها بسكين أشكال مفرداته على الطين، فتبدو تلك الخطوط محفورة كأخاديد في التربة تحدّد معالم الشخوص وتعابير وجوههم بدقة ورهافة على الرغم من صغر حجم «الرولييف» الجدارية الصغيرة أحياناً، وهذه المهمة تزداد صعوبة بحسب احتشاد العناصر فيها وتنوعها، كما تظهر تلك الميزة «الرسم» في أعمال التصوير الملونة والتي لم يتجاوز فيها اللون مها كان كثيفاً أهمية حضور الخط فيها «وهذه الحالة عند فادي استثنائية»، فغالباً ما يحضر اللون شفيفاً ومتداخلاً مع مشتـّقه باتفاق وتفاهم على توشيح بعض المساحة في اللوحة، أو تتقاسم تلك المنظومة من الألوان المفردات فيما بينها فتتباين في ظهوراتها وفي قوامها لقليل من الجماليات وكثيراً من التعبير الذي تعوّضه الخطوط بشغبها ورعونتها على كامل المساحة، بحيث يمثـّل أسود الخطوط الكتلة والأبيض الفراغ فيها بغياب اللون، وأحياناً بحضوره اللطيف والشاعري في بعض المناطق من العمل الذي غالباً ما نستطيع متابعته من كل الاتجاهات بنفس المتعة والدهشة، ومن طريقة اشتغال التشكيلي عليه وتدويره أثناء الرسم وبناء التكوين المتحرّر من البؤرة والمركز، لتتوزع الأهمية بالتساوي على مختلف مناطق العمل وصولاً إلى الحواف التي تحدّدها أحياناً بعض الأطراف من جسد التفّ قسراً حتى لا يتجاوز حدود الكادر.




من أعمال فادي يازجي النحتية

فادي يازجي الذي تخرّج من قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بدمشق العام 1988، عرض أول مرّة بعد خمس سنوات من تخرّجه مجموعة من اللوحات بتقنيات مختلفة والتي تضمّنت آنذاك قيماً غرافيكية عالية من حيث تأثيرها في السطح، والذي كان يشبه يومها عمل الرولييف من الصلصال المشوي الذي تميّز فيه الفنان فيما بعد ، وتتالت المعارض التي غاب عنها النحت إلى ما بعد منتصف التسعينات تقريباً، والذي بدأ يقدمه التشكيلي تدريجياً وبأشكال تعبير وتقنيات مختلفة إلى جانب التصوير ، باستثناء معرض واحد شارك فيه كنحات مع الفنان أسعد عرابي وكان معرضاً ناجحاً ومميّزاً بكل المقاييس، لنقاط التقاطع بين لوحة عرابي ورولييف يازجي من حيث موضوعها وشخوصها والأسلوب وشكل الصياغة المتداخلة باللاوعي بين الفنانين كاستناد.


من أعمال التشكيلي فادي يازجي

بعد ذلك تطورت التجربة عند التشكيلي يازجي الذي بدأ يعرض مجسماته في فراغ الصالة كمنحوتة منفصلة عن الجدار، ومحقّقة شروط ارتقائها ونهوضها بلياقة وقيافة في نفس الموضوع الذي ما زال يشغل اهتمام الفنان إلى اليوم، «الإنسان كقيمة عليا في الحياة» وهذه المقولة التي قدمها يازجي بإشكالية الحلم وعلاقته بالواقع معتمداً على المخيـّلة كوسيط، ليترك للمتلقي مساحة كافية بينه وبين هذا الكائن الذي يكرّر فادي تقديمه بما يقارب هذه الصياغة من التعبير الإنساني في الوجه، والحيواني في الجسد أو الجذع الذي يستند على أربعة وأحياناً على إثنتين، هو نفسه الذي كنـّا نتابعه قبل قليل يسبح في فضاء لوحاته المفرّغ من الجاذبية، أو نافراً من على سطح جدارياته الطينية الأقرب إلى مفهوم «البارولييف»، مراعياً هذه المرّة نعومة السطح بعد صقله ليزيد من فخامة ونبل المادة «البرونز» وحضورها اللافت، متضمّنة تلك العلاقة التناقضية وجماليات انسجام تضادها، بين الحيواني والإنساني، وبين اللطف والمودّة في الوجه وقبحه في الشكل بالمفهوم الكلاسيكي للمعنى، وأيضاً بين قساوة الخطوط ووضوحها من ناحية ونعومة السطح والتفافه بغنج على بعضه في ناحية ثانية في نفس العمل، وجميع هذه الثنائيات نراها محقّقة بامتياز كمفهوم وقيمة في أي منحوتة وهي تدور أمامنا بتوازن ونهوض مميّزين، وربما شعرنا ببعض الفرق في المنحوتات ذات الحجم الكبير نسبياً والتي لا بدّ حتى نشاهدها أن ندور نحن حولها وأن ننحني أحياناً إذا ما أردنا التعرّف أكثر على أحوالها واكتشاف الجماليات الداخلية للعمل والتي تظهر غالباً في التفاصيل والخطوط التي تتضمّن بعناية المعنى والمغنى في أي جزء من العمل.

«المشغل» ذلك المكان الذي يعني بالنسبة إلى فادي يازجي فضاءُه الخاص الملتزم بالدوام فيه يومياً منذ الصباح وحتى المساء، هو مكان للعمل فقط، يرسم، ينحت، يطالع و يستمع إلى موسيقاه المفضّلة، ويتردّد عليه أحياناً ولبعض الوقت أصدقاء، وهو المعروف بشدّة تهذيبه وبما يكنّه من محبة للجميع، وبصراحته وقبوله واحترامه الرأي الآخر لجرأته، وحق الاختلاف خاصة حول عمله الفني، الذي هو بالمحصلة غالباً ما يعكس بوضوح وشفافية معظم تلك الصفات التي تخصّ الفنان بشكل مباشر أو غير مباشر.


من أعمال التشكيلي فادي يازجي

وقبل أن نغادر فضاء محترف فادي يازجي بجدرانه العالية وضوئه الغزير ومجموعة محتوياته وتفاصيل عديدة راكنة هنا وهناك، بقيت جميعها أشياء ما زالت تضيف الكثير باللاوعي إلى تجربة التشكيلي في تجريبه وبحثه الدائم عن الممكن تحقيقه، ويرضي غروره وقناعاته بكل مرحلة من اشتغاله، وهو التشكيلي الذي عرض قبل سنوات في أهم صالات العرض ومزادات الفن في العالم، وأهمية تداخل تلك المراحل كتراكم بصري معرفي وتقني لإغناء عمله القادم بقيم أكثر إنسانية يتسم بروحانية الشرق، رغم انحياز التجربة بالعموم إلى تيارات الحداثة منذ خطواتها الأولى قبل أكثر من عشرين عاماً، وما زالت تتميّز بخصوصية انتمائها إلى المحترف التعبيري السوري بما يضمّ من تنوّع في الأداء وغنى بالمضمون.

فادي يازجي:
- من مواليد اللاذقية 1966.
- تخرج من قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بدمشق 1988.
- متفرغ للعمل الفني، يعمل ويقيم في دمشق منذ تخرجه.
- أقام العديد من المعارض الفردية داخل وخارج سورية منذ العام 1992.
- مشارك دائم في المعرض السنوي العام.
- شارك في العديد من المعارض الجماعية والتظاهرات الفنية داخل وخارج سورية «لبنان - الإمارات – الأردن - بريطانيا - الولايات المتحدة – هولندة – الشارقة» .
- 2007 - 2008عُرضت أعماله وبيعت في مزاد كريستي للفن في دبي .
- أعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة ولدى مجموعات خاصة داخل وخارج سورية.
- معروف كمصوّر أكثر منه كنحات، أعماله في الاختصاصين تجنح باتجاه التعبيرية المحدثة وتعتمد الإنسان كموضوع، والبورتريه بشكل خاص.
-معروف باجتهاده التقني، وتجريبه في المواد والخامات.


غازي عانا

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق