سور مدينة دمشق والاكتشافات الأثرية الأخيرة

19 أيار 2011

مقدمة:
دمشق، أقدم مدينة آهلة بالسكان في العالم، ذاع صيت عظمتها في العالم القديم والحديث، وكانت قبلة العلماء والباحثين، ولا تزال حتى الوقت الحاضر تستقطب في شوارعها وحاراتها وأزقتها وبين جدرانها ومنازلها من يبحث عن أثر أو كتابة أو حجر لينهل منه دروس التاريخ. نشأت دمشق في مكان منبسط حيث يمر عبره نهر بردى، وهي على عكس العديد من المدن الأخرى التي نجدها في مكان محصن مرتفع عن المحيط، وبالتالي فإن التوضعات الأولى لم تكن تبحث عن مكان مرتفع وإنما عن وجود مصدر ماء ثابت، وأقدم هذه البقايا تم العثور عليها داخل قلعة دمشق بالقرب من نهر بردى، وتتمثل بكسر فخارية تعود لعصر البرونز القديم عثر عليها أثناء أعمال التنقيب داخل ساحة القلعة، إضافة إلى العديد من الكسر العظمية المؤرخة على نفس العصر[1].

خلال العصر الآرامي، ذكرت الوثائق الكتابية دمشق، وأمدتنا بمعلومات مهمة عن أحداثها التاريخية[2]، إلا أن المعلومات المتعلقة بالمدينة ومنشآتها وأوصافها ضئيلة جداً والسبب في ذلك يعود لاختفائها مع الزمن من جهة، وصعوبة التنقيب عن بقاياها من جهة أخرى. وقد أشارت الدراسات التي تناولت دمشق خلال هذا العصر إلى عنصرين مهمين في المدينة، وهما القصر والمعبد، فيما يخص المعبد الذي كان يعرف باسم معبد حدد فهناك اتفاق علمي بين أغلب الباحثين على أن موضعه عند الجامع الأموي، وذلك بعد العثور على لوح حجري كبير يحمل نقشاً في أساسات الجدار الشمالي للجامع الأموي. أما بخصوص موضع القصر الآرامي فتضاربت آراء الباحثين فمنهم من ذكر مكانه في ثنايا قمة أسفل التلة الواقعة في حي باب توما شرقي المدينة وشمال الشارع المستقيم[3]. وذكر آخرون وجود القصر الآرامي ضمن تلة السماكة الواقعة جنوبي الشارع المستقيم[4]. أما بخصوص السور فلا يوجد أي ذكر له، وهناك من الباحثين من يؤكد وجود سور للمدينة في العصر الآرامي، إلا أنه حتى الوقت الحاضر لا توجد أية أدلة أثرية على مكان وجوده.

كذلك خلال العصر اليوناني لا توجد دلائل على مكان وجود السور، علماً أن الكثيرين قد أشاروا إلى وجود سور يحيط بالمدينة، ومع الانتقال إلى العصر الروماني بدأ عهد جديد في سورية، وخصوصاً في دمشق، حيث لا تزال الكثير من البقايا الأثرية التي تعود لتلك الفترة ظاهرة في المكان، سواء منها المنشآت الدينية والمدنية والدفاعية والتي ينتمي إليها السور موضوع البحث، حيث نجد ذكراً في المصادر المسيحية لبعض الأمور المتعلقة به. فقد ذكر المؤرخون المسيحيون في كتاباتهم أهم حادثة خلال هذه الفترة التي تدور حول بولس الرسول (شاؤول) حين كان ملاحقاً من قبل الرومان حوالي عام 41 م، وتمكن من الهرب واحتمى في أحد الأقبية المجاورة لسور المدينة، وقد كانت دمشق وقتئذ تحت سيطرة الملك النبطي الحارث الرابع ( 9 ق.م- 41 م)، والذي لبى طلب الرومان بإغلاق بوابات السور لقطع الطريق على بولس، إلا أن بولس تمكن من الهرب بعد أن تدلى بسلة من فوق سور المدينة، وهو المكان الذي يعرف اليوم باسم باب كيسان. من خلال هذا الوصف يمكننا أن نستنتج أن سور دمشق في العام 41 م كان موجوداً، إلا أن التساؤل المطروح في هذا السياق هو: هل السور الموجود حالياً في المكان الذي هرب منه بولس (في الجهة الجنوبية من دمشق) هو نفس السور آنذاك؟ إن إشكالية السور الإسلامي والروماني أثارت العديد من التساؤلات، فهناك بعض المستشرقين أمثال جان سوفاجيه اعتبروا أن السور الحالي هو من عمل العصور الإسلامية وأن السور الروماني يأخذ شكل مستطيل ومساره مختلف عن مسار السور الحالي. ونتيجة لهذه الإشكالية كان هناك بعض الباحثين ممن اهتم بإجراء أعمال تنقيب على السور والكشف عن الأساسات وتحديد الفترة التاريخية الدقيقة التي بني فيها السور الحالي.

أعمال التنقيب السابقة:
خلال عام 1998 جرت الحفريات الأولى (الشكل 1) في محيط سور مدينة دمشق من قبل بعثة ألمانية، حيث قام الباحث الألماني البروفيسور ميخائيل براونه بأعمال تنقيب في الجهة الجنوبية من المدينة، وذلك على بعد حوالي 100 متر إلى الغرب من باب كيسان، وتمثلت أعماله بفتح مربعين، الأول خارج السور والثاني داخل السور، واستمرت حفرياته حوالي الشهر، وكانت النتائج كالتالي: إن السور الحالي هو سور يعود إلى الفترة الإسلامية (من الأساسات وحتى القمة)، ولم يتم العثور على أية سوية رومانية أو كلاسيكية ضمن السور. وذكر وجود فترتين إسلاميتين، الأولى تعود إلى العصر الزنكي أو الأيوبي والثانية للعصر الأيوبي أو المملوكي[5].


الشكل1: أماكن توضع أعمال التنقيب السابقة

أما الحفريات الثانية فكانت من قبل فريق سوري، و بدأت أعمال التنقيب خلال عام 2004 وذلك في الحديقة الملاصقة للسور، حيث تم اختيار منطقة الحفريات على بعد حوالي 50 متراً إلى الغرب من باب كيسان، وتم فتح أربعة مربعات داخل وخارج السور. وكانت نتائج هذه التنقيبات الكشف عن أساسات السور الحالي في المنطقة التي تقع إلى الغرب من باب كيسان، والتي تبين بأنها رومانية تعود إلى القرن الثاني – الثالث الميلادي، وأن سماكة السور الذي يعود إلى العصر الروماني تبلغ حوالي 250 سم.

الشكل2: حجارة السور التي تعود إلى العصور الإسلامية

وخلال العصور الإسلامية تم تعريض السور وبناء جدار رديف للجدار الأصلي وذلك في الجهة الداخلية للسور، حيث أصبحت سماكة السور حوالي 480 سم، وتعود هذه العملية إلى بداية العصر المملوكي[6]، حيث تم إهمال السور خلال العصر العثماني (الشكل 2)، وانعدمت أهميته العسكرية لا سيما وأن السكان شيدوا العديد من دور السكن فوقه والتي لا تزال حتى الوقت الحاضر.

أعمال التنقيب الأخيرة:
بناء على النتائج السابقة ووجود تضارب بينها علماً أنها جرت في نفس المنطقة، ورغبة بمتابعة العمل قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف ممثلة بدائرة آثار دمشق بإجراء أعمال تنقيب جديدة (الشكل3) خلال عامي 2009 و2010.

الشكل3: أماكن توضع أعمال التنقيب الأخيرة

أعمال 2009:
توضعت الأعمال في الجهة الشمالية من سور المدينة ضمن حديقة باب توما، وتم إجراء سبرين، واستمرت الأعمال ثلاثين يوماً حيث تم الكشف عن الأساسات في كلا السبرين على عمق 5-6 متر. وكانت النتائج أن السور في هذا الجزء يعود إلى العصور الإسلامية من الأساسات حتى القمة، وقد تم الكشف عن عناصر حجرية رومانية مثل قواعد أعمدة وتيجان أعيد استخدامها في بناء السور، وحسب اللقى الفخارية وتقنية تشذيب القطع الحجرية وطريقة إعادة استخدامها يمكن القول أنها تعود للعصر الأيوبي[7] (الشكل4).

الشكل4آ: حجارة رومانية أعيد استخدامها في أساسات السور خلال العصور الإسلامية


الشكل4ب: حجارة رومانية أعيد استخدامها في أساسات السور خلال العصور الإسلامية

أعمال 2010:
خلال هذا العام تم القيام بفتح مربعين أيضاً في الجهة الجنوبية من السور باتجاه الباب الصغير، أحدهما يقع بالقرب من الحفريات السابقة، والثاني بالقرب من الباب الصغير، وقد استمر العمل لمدة شهر وكانت النتائج مطابقة لنتائج الباحث الألماني وحفريات عام 2009، حيث تم الوصول إلى الأرض الطبيعية على عمق 6 أمتار، والكشف عن أساسات السور، وتبين وجود عناصر حجرية رومانية (قواعد أعمدة وأعمدة) أعيد استخدامها في أساسات السور (الشكل 5)، كذلك تم العثور على بعض الأواني الفخارية الكاملة والتي أرخت على العصر الأيوبي، إلى جانب ذلك أيضاً عثر على منشآت صناعية (أفران للزجاج) ملاصقة للسور من الداخل، وتبين وجود سور داخلي تعرض للتخريب يعود إلى فترة تعريض السور خلال العصر الأيوبي[8]. وهناك نص تاريخي بهذا الخصوص يذكر تعريض السور خلال عصر المعظم بن العادل وولده[9].

الشكل5: قواعد أعمدة رومانية أعيد استخدامها في أساسات السور خلال العصور الإسلامية

ما تجدر الإشارة إليه أن سور مدينة دمشق تعرض للكثير من أعمال الترميم والإضافات، كذلك يمكن القول أن هناك بعض أجزائه تم إعادة بنائها بالكامل، وقد حاولنا من خلال هذا البحث البسيط أن نظهر آخر النتائج الأولية عن سور مدينة دمشق بالاستناد إلى التنقيبات الأثرية. ويمكننا القول أنه حتى الوقت الحاضر لا يمكننا الجزم بتاريخ بناء السور، ومن جهة أخرى ما إذا كان السور الحالي يعود للعصر الروماني، خصوصاً وأن أعمال التنقيب التي تمت أظهرت أن السور الحالي في الأماكن التي جرت فيها أعمال التنقيب يعود للعصور الإسلامية، ولكي تكون النتيجة واضحة لا بد من متابعة أعمال التنقيب حول السور بالكامل من جميع جهاته، وبناء على النتائج التي ستظهرها هذه الأعمال ومقارنتها مع بعضها سيتم التوصل إلى نتيجة واضحة عن تاريخ بناء السور ومراحل الترميم التي جرت عليه.

الحواشي:
[1] LERICHE P, AL-MAQDISSI M, GELIN M; 2002-2003, La fouille des etats antiques de la citadelle de Damas, AAAS, XLV- XLVI, Damas, pp. 445-457.
2] للمزيد عن تلك الوثائق راجع:
كلينكل، هورست: 1985، دمشق في النصوص المسمارية، ت. قاسم طوير، الحوليات الأثرية لاسورية، م 35، دمشق، ص111-117.
Will e; 1994, Damas antiques, Syria, LXXI, Paris, pp. 1-43.
3] زاك، دورتيه: 2005، دمشق تطور وبنيان مدينة مشرقية إسلامية، ت. قاسم طوير، المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، دمشق، ص 19.
[4] SAUFVAGET J; 1949, le plan antique de Damas, SYRIA, XXVI, Paris, p. 350.
5] ميخائيل، براونه: 1998، تقرير أولي، أرشيف دائرة آثار دمشق.
[6] دبور، يامن: 2004، تقرير أولي، أرشيف دائرة آثار دمشق.
[7] ياغي، غزوان. سعد، همام: 2009، تقرير أولي، دائرة آثار دمشق.
[8] ياغي، غزوان. سعد، همام:2010، تقرير أولي، دائرة آثار دمشق.
[9] ابن حجة، الحموي في كتابه التاريخ المنصوري, تح:ابو العيد دودو, ص 114.


إعداد: همّام سعد

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

حجارة رومانية أعيد استخدامها في اساسات السور خلال العصور الإسلامية

أماكن توضع أعمال التنقيب السابقة

حجارة السور التي تعود للعصور الإسلامية

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

فيليب كاسترو:

شي رائع
انني اعلم بحضرتي بلدي لكن لا اعرف الكثير عنها ولكم كل احترامتي

سوريا

منال :

هذه مشاركتي الأولى وتعليقي الأول على هذا الموقع ..........تسلم اليد التي كتبت وانشالله سوريا ضل بخير بآثارها وكتابها واللي بدون يصونوها لآخر العمر .......

سوريا

هالة النابلسي:

نشكر المسؤولين على اهتمامهم بستخراج اثار منطقة السر القديم ارجو الاهتمام ففى منطقة شارع المستقيم وتحت السور وفي الاماكن القديمة الشئ الكثير , ارجو الاهتمام والعمل على ذلك.

GOOD LUK

ٍسوريا

خضر حسن:

سوريا بلد الحضارة وكل العالم بيعرفو هالشي الله يحميكي يا سوريا

sسوريا