باب تدمر في دورا أوروبوس

30 06


دورا أوروبوس

تحدث بعض المؤلفين عن دورا أوروبوس (صالحية الفرات) حديثهم عن "مدينة قوافل" مستخدمين عبارات م. روستوتسيف الذي كان أول من استخدم هذه الصيغة في كتابه "مدائن القوافل". وفي متحف جامعة ييل بين مكونات البعثة الأميركية الفرنسية التي كان يديرها م. روستوتسيف تبدو قافلة تجتاز باب المدينة الرئيسي المسمى "باب تدمر"، وقد رفض كتاب آخرون مثل دانييل شلومبرجه في كتابه "الشرق الهيليني"، مثل هذا الطرح الذي لم تؤيده أية كتابة أو أية تعرفة رسوم كالتي وجدت في تدمر. وذلك رغم وجود فصيل الخيالة التدمرية رقم عشرين في دورا أوروبوس.

ولما كانت أعمال التنقيب قد توقفت منذ 1937 فإنه لم يطرأ عنصر جديد يحرك النقاش حول الموضوع. وبقيت المسألة معلقة برمتها. إلا أن معاودة تشكيل بعثة دورا أوروبوس السورية الفرنسية في 1986 قد زودتنا بمعلومات جديدة فتحت باب المناقشة من جديد. وفعلاً إن هذه البعثة الجديدة تستهدف متابعة دراسة التحصينات وبعض الأوابد الرئيسية ومن بين أنشطة هذه البعثة يشغل التنقيب في باب تدمر مكانة هامة. والنتائج التي تم الحصول عليها حتى اليوم تلقي أضواءً جديدة على المسألة التي نحن بصددها ألا وهي: هل باب تدمر في دورا أوروبوس هو باب القوافل؟

لقد نقبت بعثة جامعة ييل الأميركية في باب تدمر منذ أول موسم من مواسمها ومن ثم في الموسم الثاني والسابع والعاشر. ولكن من المؤسف أن الأوصاف التي أعطيت كانت موجزة نسبياً واقتصر الأمر على نشر مخططات عامة غير مفصلة. وعلى هذا باشرت البعثة الجديدة العمل بمجمله مستهدفة الإعداد لنشر دراسة شاملة عن هذا الباب فنظفت الأسبار القديمة التي أجرتها بعثة جامعة ييل ووسعت بعضها لإظهار المشيدات بشكل أفضل.

أصبح من الممكن الآن، بالاستناد إلى نتائج مجمل الأعمال القديمة والحديثة. أن نتعرف إلى الخطوط الرئيسية في تاريخ باب تدمر. إن هذا البناء لم يشيد في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد لكن في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد. وفي آخر مرحلة من وجوده، أي في 253 ميلادية، كان هذا الباب، شأنه شأن السور الغربي كله محمياً بجدار مائل قوي من اللبن استعداداً للهجوم الساساني الذي تحقق فعلاً وأنهى حياة المدينة بعد ثلاثة أعوام.
وبين تاريخي إنشائه وسقوطه عرف باب تدمر عدداً من الترتيبات المختلفة التي تركت آثارها على البناء.

ومن دراسة هذه الترتيبات يتضح أن باب تدمر عرف جملة من الأوضاع المتتابعة التي تمتد من 150 إلى 113 قبل الميلاد أي تاريخ بناء الباب إلى 256 ميلادية وهو تاريخ هجران المدينة.

وخلال هذه القرون الأربعة كان عدد أوضاع الباب ستة، سوف نقوم بوصفها محاولين أن نتبين فيما إذا كان من بينها ما يمكن أن يستدل فيه على نشاط للقوافل في مدينة دورا أوروبوس.

الوضع الأول (الإغريقي): بناء الباب بين 150 و113 ق.م:
كان الباب يبدو صرحاً مهيباً كمجموعة الأسوار. وكان هذا البناء الجليل ذو المسقط القريب من المربع (كل ضلع حوالي 23 متر) مركباً على السور وفيه مدخل محوري بين برجين متطاولين من الشرق إلى الغرب يحفان بالشارع المفضي إلى الباب. ويمكن إيقاف المرور في نقطتين: في وسط الممر ببوابة ارتفاعها ستة أمتار، وعرضها خمسة أمتار تقريباً تعلوها قبة نصف دائرية. وفي الجبهة الخارجية بوابة أخرى لها العرض نفسه. ولكنها لا تعلو أكثر من أربعة أمتار ومسقوفة بشكل مسطح.

وبالتفحص الدقيق لعتبتي هاتين البوابتين وقوائمهما يتضح أن اجتياز البوابتين كان أعلى بثمانين سنتيمتراً تقريباً من البلاطة الحجرية الكلسية التي كانت تشكل منسوب أرضية الطريق القديمة، وأن العتبة الغربية توصل إلى الخارج بدرجات ثلاث. وعلى هذا لابد من أن نعتبر أن باب تدمر، في وضعه الأول، كان يتعذر فيه مرور العربات ذات العجلات، فكان هذا الباب للمشاة والخيالة وليس مستبعداً أن يكون للقوافل أيضاً.

وفي الخارج كانت الطريق المؤدية إلى باب تدمر على امتداد الممر المتوسط لهذا الباب دون شك. فعلى امتداد محور الباب وعلى بعد مائتي متر منه أجرينا سبراً فوقعنا على أرضية هذه الطريق وفيها آثار حجر وملاط وفحم وتتخذ هذه الطريق اتجاه وادي صواب الذي ربما كان أحد محاور السير بين تدمر والفرات. ويقتضي الأمر تصحيح المسارات المقترحة للطريق إلى الشمال أو إلى الجنوب.

الوضع الثاني:فرثي (بارثي):
وهذا الوضع يلي فترة طويلة من الاستعمال دون صيانة، كما هي الحال في السور بمجمله. ويلاحظ وجود حت شديد في عتبتي البوابتين وبخاصة العتبة الغربية التي تجوفت، وهبط المنسوب ودرج المدخل تمت تسويته عملياً بالأرض.

وفي فترة ثانية زيد في سماكة القائم الشمالي في البوابة الغربية الأمر الذي أدى إلى تضييق فتحة البوابة من 4.80 متراً إلى 3.80 متراً. وحُفر جرنان جديدان لدرفتي الباب في سوية أدنى من الجرنين السابقين.
لقد تم تعديل مسار الطريق، وانعطف السير الأساسي خارج المدينة نحو الشمال الغربي حيث وجدت أرضية مرصوصة مختلطة بالحصى تدل على اتجاه هذه الطريق. وحدد هذا المسار الجديد بناء قوس تراجان في 115 ـ117 ميلادية على بعد حوالي كيلومتر واحد إلى الشمال الغربي من المدينة.

ولاشك في أن هذه الفترة شهدت استبدال النقل على ظهور الحيوانات بالنقل في العربات. على أية حال هذا ما يبدو لنا من وجود الأثلام المحفورة في الأرضية التي هي موازية لواجهة البرج الشمالي، والحت المستدير في القائم الشمالي الجديد في البوابة الخارجية.

الوضع الثالث: فرثي(بارثي):
ولهذه الفترة نرجح نسبة بقايا بناء ضخم مشيد بالحجر المغموس على واجهة باب تدمر ومهدم جزئياً عند تشييد الجدار المائل الذي سبق ذكره. لقد اعتبر فون غركان هذا البناء "نوعاً من بوميريوم" أو ساحة أمامية يتوقف فيها الزوار خارج المدينة قبل إدخالهم إليها. إن هذه الساحة المغلقة عمقها 7 أمتار بالاتجاه الشرقي الغربي هي أعرض من الباب نفسه (28 متر والباب 23.2 متر) لأن جدارها الجنوبي يمد الوجه الجنوبي له، بينما جدارها الشمالي يزيد على الوجه الشمالي بشكل أمكن معه إنشاء باب فيه ينفتح نحو الغرب، أي مقابل البادية. إن هذه الفتحة التي يبلغ عرضها 2.55 متراً، وارتفاعها 2.50 متراً، مجهزة برتاج ضخم للإغلاق. وثمة باب آخر في الجهة الغربية من محور الممر لكن هذا الباب لا يمكن قياسه في الوقت الراهن.

إن الباحة الأمامية لا تبدو لنا من السعة بحيث يمكن أن تحط فيها قافلة. ومن المؤكد أن بناءها كما افترض فون غركان يستهدف تعزيز الرقابة على مدخل المدينة. وهي قد تفسر إيقاف استعمال بوابة الباب المركزية التي سد مزلاجها. ونحن هنا إجمالاً إزاء نقل نحو الخارج للسد المزدوج عند المدخل. وإن الاهتمامات الأمنية تتغلب على الضرورات الدفاعية ذات الطابع العسكري.

ولا نملك الآن ما يمكننا من تأريخ بناء هذه الباحة الأمامية. ومع ذلك فإن من الواضح أن هذا الوضع حصل بعد إنشاء الطريق المتجهة نحو الشمال. إذ أن الجدار الشمالي للباحة الأمامية يقوم جزئياً على أرضية هذه الطريق الجديدة، والتي هي مع ذلك قديمة نسبياً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تطورها اللاحق. واستناداً إلى هذا لا نتردد في القول بأن بناء هذه الباحة الأمامية تم في العصر الفرثي بينما يرى فون غركان دون مستند أنها من العصر الروماني.

الوضع الرابع (مطلع الفترة الرومانية):
عرف باب تدمر بعد الاحتلال الروماني (اعتباراً من 165 م) مرحلة جديدة من الأعمال، بتمرير قناة تصريف مياه تمتد من الحمامات القائمة على طول الشارع الرئيسي قرب السور الذي ينسب للعصر الروماني. وعند ذلك أعيدت العتبة الفرثية (البارثية) إلى ما كانت عليه باستخدام بلاطات جديدة موضوعة عملياً على مستوى الصخر. وإن اجتياز العقبة التي أحدثتها هذه العتبة الجديدة قد حل بوضع ملاط يرفع مستوى الطريق، و على هذه العتبة الجديدة والقناة آثار مرور العربات، فقد بقي باب تدمر إذاً باباً للعربات.

وفي زمن تالٍ أعيق السير جزئياً بإنشاء عتبة لا يمكن أن تجتازها العربات في الباب الشمالي الشرقي من الباحة الأمامية. بينما سد باب الباحة المحوري. ولا شك في أن ذلك التحول يدل على ضرورة تعزيز التدابير الأمنية، وعلى تدني النشاط التجاري، الأمر الذي لوحظ في المدينة نفسها وتلك الظاهرتان مرتبطتان ببعضهما دون شك.
الوضع الخامس (نهاية الفترة الرومانية حوالي 253م):
أمام احتمال حصار يقوم به الجيش الساساني جعلت المدينة في حالة دفاع، فبني الجدار الضخم المائل من الردم المكسو باللبن وكانت مهمته حماية السور الغربي. ولم ينج باب تدمر من العملية واستدعى بناء هذا الجدار المائل اختفاء الباحة الأمامية التي اكتنفها الجدار المائل وتهدمت جزئياً. وقطع الجدار المائل عند محور باب تدمر لتأمين الدخول وتسهيل السير. وقد حصل هذا القطع بعطف الجدار المائل نحو الداخل شمالاً وجنوباً. وقد أزيل جدار الباحة الأمامية من فوق الطريق. وفي هذه الفترة الأخيرة أصبح الوصول إلى باب تدمر جبهوياً من جديد مع ترتيب سطح البلاطة الحجرية الكلسية بحيث توجه السير للطريق المتجهة نحو الشمال.

الوضع السادس:
عندما أقيم الحصار أمام دورا أوروبوس، أغلق الممر بين جزئي الجدار المائل أمام الباب بجدار من اللبن غير سميك فأغلق نهائياً.

وبينت أعمال التنقيب أنه عند الهجوم النهائي كان باب تدمر في دورا أوروبوس إحدى النقاط التي استهدفها ذلك الهجوم الذي كان عنيفاً جداً ونجد آثاره على الأرض حول الباب: مقذوفات عديدة (حجارة وسهام ورماح وبلاط) وأجزاء من دروع وصفاح وبارزة درقة من البرونز، والكل مكتنف بطبقة سميكة من الرمال والحطام المتفحم ويستغرب بقاء هذه الأشياء في مكانها بعد احتلال المدينة.

وبنتيجة دراسة مراحل تطور باب تدمر في دورا أوروبوس يبدو أنه لا شيء يدفعنا للكلام عن نشاط هام للقوافل في دورا أوروبوس حتى إذا كان ذلك غير مستبعد في العصر الهيلينستي. وعلى الرغم من وجود خان مفترض لم ينقب فيه بعد داخل المدينة الرومانية فإن مثل ذلك النشاط يحتاج للدليل ويبقى مع ذلك غير مرجح.


بيير لوريش

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

اسمك

الدولة

التعليق

محمد الحسن الاسود:

انا احد العاملين في هذا الاثاروساهمت في ترميم بعض المواقع مثل معبد بيل الجميل وغيره المواقع تعليقي لاتعليق لكن احب ان اتوجه بلشكر لكل من عمل في هذا الاثار وارانى ملامحه الجميله بعد ان كان برثيها التراب واخص بلتحديد الدكتوره متلد والسيد البير لريش والاستاذ ياسروله كل الشكر وشكرا