التشكيلي فاروق قندقجي في معرضه الأحدث: لوحاتي هي صورتي الوحيدة التي تشبهني

19 آذار 2011

الشجرة .. تلك المفردة المدلّلة بقيت الأكثر حضوراً وأهمية في مشاهده إلى اليوم

في المعرض الأحدث لفاروق قندقجي بغاليري الآرت هاوس بدمشق آذار 2011، نلاحظ سعي التشكيلي مجتهداً لتقديم بعض الإضافات على ما عرضه في نفس الصالة قبل سنتين من الآن، وإن التزم بالموضوع الذي لا يغادره عادة، فتميّز هذا المعرض ببعض اللوحات التي اقتصرت على الأسود والأبيض ليعوّض التشكيلي عن جماليات الألوان التي غابت عنها، من خلال خصائص هذين النقيضين وما يحملان من طاقة تعبيرية وتأثير على المشاهد، أثناء تجاورهما أو ابتعاد كل منهما عن الآخر، والقيم البصرية العالية بحساسيتها التي تنشأ في ذلك الزمن الذي يفصل بين الفعلين، وهي تشبه بذلك تلك العلاقة النفسية التي يتركها تناوب الليل والنهار على الكائنات مثلما على الطبيعة بمكوناتها المختلفة.

في المعرض الجديد وبعيداً عن اللوحات، أو أمامها نصّب التشكيلي عملاً تفاعلياً تركيبياً، لمجموعة من الجلسات على شكل مكعبات من الإسمنت يتوسطها فراغ على شكل اسطواني اصطفت فيها سلسلة من القضبان الخشبية ارتكزت على قاعدة مرنة مثبّتة على نوابض لتمنح الجالس شعوراً مختلفاً بالراحة، من خلال حركتها السلسة التي تنقاد لشكل وطريقة جلوس المتلقي عليها وهو يتأمل لوحات المعرض المحتفية بمشاهد الطبيعة التي ساهمت هي أيضاً في ذلك الاستمتاع بتلك الجلسة.

إذاً هي فكرة منحت المعرض إضافة بصرية لطيفة للمتلقي الذي تفاعل معها، كما ألقت بعض الإضاءة على تجربة التشكيلي التي لم تقتصر على تثمّل الطبيعة في لوحاته، مبدياً رأياً جديداً ومفيداً من حيث استخدامه لمادة الإسمنت المشوّهة عادة للبيئة، موظفاً تلك المواد بطريقة عملية وبسيطة ومفيدة في الوقت ذاته، كما كان حضورها في الصالة مُلفتاً بغرابته، مميزاً بتقنيته، ولطيفاً من حيث توظيفه جمالياً خدمة للإنسان والبيئة .

في لوحات فاروق قندقجي والتي تبدو للوهلة الأولى مفاجئة من حيث موضوعها وهو غالباً يقتصر على عنصر الشجرة الذي يكاد يكون وحيداً في بعض أو معظم كوادره، والمنفـّذة بصياغة تجمع بين أكثر من مدرسة وأسلوب بدءاً من الواقعية وحتى حدود التجريد، وهذا ما يؤكـّد إلمام التشكيلي أو خوضه غمار تلك المذاهب الفنية خلال مسيرته الفنية التي بدأها هاوياً مع مجموعة من فناني حمص المجتهدين في جولاتهم الميدانية للرسم في الطبيعة والتي مازال مخلصاً لها كونها الملهم الأول لذاته الفني، والذي اختزلها بـالشجرة ذلك العنصر الأكثر حضوراً وأهمية في مشاهده إلى اليوم .


فاروق قندقجي، المولود في حمص 1959 درس الفن ومارسه بين سورية وفرنسا وهو مقيم في السعودية، بدأ الرسم مبكـّراً في الطبيعة وما زال مخلصاً لجمالياتها المخزنة في الذاكرة، وهو في كلّ مرّة يعلن شكلاً مختلفاً وجديداً لاحتفائه بها وما تحويه بالإضافة إلى الشجرة من مفردات لطيفة نفـّذها بصياغات تخصّ تجربته الفنية التي أغناها بالثقافة والاطلاع والعرض في أكثر من مكان، وقد دخلت أعماله عدداً من المتاحف والقصور .

تلك الشجرة، التي ترمز إلى استمرار الحياة وتدفـّقها غالباً ما تشكـّل البؤرة البصرية في العمل لديه، وهي تشغل المساحة الأرحب في فضاء اللوحة التي تشعر بأناقة حضورها الملفت ورومانسية أجوائها، من دقة تنفيذها والعناية الفائقة التي يوليها للتفاصيل التي تتلاشى في مستويات الرؤية المتتالية لفضاء لا يعكس رغم تماهيه سوى الحب والدهشة .

تحتل الشجرة ثلثي المساحة أحياناً ولكنها دائماً يبقيها التشكيلي بالمستوى الثاني للرؤية من حيث الوضوح لتبدو ضبابية، أو كمؤثـّرات بصرية مشغولة بفهم تجريدي من أجل حضور أبهى لذلك العنصر المحتفى به، والذي غالباً ما يشغل المركز أو أي مكان من اللوحة الكبيرة نسبياً، وحول هذه المقاربة يقول التشكيلي: «الحجم الكبير للوحة يجعلك ترى الأشياء بمنظور مختلف، ومن خلاله يمكنك أن ترى الأشياء الواقعية عبر لقطات مجهرية قريبة جداً تبدو وكأنها تجريد، كذلك الأمر بالنسبة للأشياء الصغيرة عندما تكبرها أكثر من اللازم، أنا أعمل عموماً على جدلية المقارنة بين حجم المتلقي واللوحة ولعبة السيطرة فيما بينهما، فهناك أشياءٌ تعتاد على رؤيتها صغيرة، ولكنها تفاجئك عندما تبدو أكبر من اللازم على سطح ممتد من حيث الاتساع، قد تسيطر عليك وتجعلك جزءاً منها وهذا سر اللقطة القريبة».


لقد نفـّذ التشكيلي أكثر من مقطع من تلك المساحات البعيدة في مشاهده، مقرّباً بعض العناصر منها ومؤلـّفاً من خلالها مشهداً مستقلاً، ومكتفياً بما تحتويه من تفاصيل مدهشة بالاشتغال عليها تشريحياً بالخط الذي يبدو هنا أساسياً لرسم تلك المؤثـّرات التي تظهر بديعة تحت درجات اللون المتألـّق من فيض الضوء عليه، وغالباً ما تبدو تلك المقاطع أقرب إلى ما هي عليه في الحقيقة، ومضيفاً عليها تلك الحساسية التي تتركها رعشات ريشة نزقة وخبيرة في نقل التعبير من الذاكرة إلى سطح القماش، تلك المسافة ما بين الخيال والعين تختزلها إيقاعات اللون بما يختزن من طاقة وحيوية تنهض بمقومات اللوحة التي تبدو مكتملة وفائضة بالتعبير أكثر الأحيان .

فاروق قندقجي، الذي بدأ فناناً واقعياً حتى تلك البداية كانت طموحة بما يكفي ليبدي رأيه في المشهد الذي أمامه، كأن يبالغ بجماليات بعض العناصر ويلغي أو يهمل بعضها، ليعبّر عن رغبته في نقل ما أحبه وشـَغـَله عن ما تبقى فيه من أشياء ومؤثرات، وهكذا استمرّت تلك الرغبة في التأكيد على عنصر أو أكثر من الطبيعة ويتابع تأليف ما تبقى من الخيال أو ممّا حفظته الذاكرة من مشاهدات لتكتمل اللوحة، محقـّقة شروط حضورها الفني والتقني وقبولها من المشاهد على اختلاف ثقافته ومدى اطلاعه، لما تحتوي من تقنية عالية وترف بالجماليات البصرية، وغنى بالصياغات، حتى لتبدو مدهشة وممتعة في آن .

إن مشاهد الطبيعة عند التشكيلي فاروق قندقجي تكتسب أكثر من دلالة وقصد، وإن كانت في شكلها للوهلة الأولى تبدو بسيطة من إدهاشها للمتلقي الحيادي أولاً، ومن كونها تنقل منظراً من الطبيعة الخلوية بشروط مختلفة، إلاّ أنها تتضمّن كثيراً من الفلسفة والثقافة التي حصّلها الفنان بالسفر والاطـّلاع ومن خلال المشاركات العديدة في بلدان مختلفة، فهو يرسم هواجس الإنسان وتوجّسه من هذا العالم على شكل روايات بصرية يختزلها في تلك المشاهد من الطبيعة التي قد تعكس بعض هواجسه الداخلية، ففيها أحياناً كثيراً من الحزن والإحباط وحتى اليأس الذي نشعر أنه يفيض من بعض الكوادر، وأحياناً هناك بعض المشاهد التي تفيض بالضوء الذي يهطل غزيراً على تلك الألوان فيُكسبها النضارة والتألـّق الذي يصل إلى بصيرتنا على شكل إيقاعات موسيقية تمنحنا الفرح والأمل بأنه ما زال هنا متسّع لنعيش بسلام داخلي وبعض السعادة.

يقول التشكيلي : «لوحاتي هي صورتي الوحيدة التي تشبهني». يبقى العمل الفني مشروعاً يحمل مبرّرات التشكيلي وقناعاته في الحياة، وهو حصيلة ما يرغب أن يقوله في معظم القضايا المعاصرة المحيطة به، وهو في نفس الوقت يشكّل اللغة البصرية التي يعبّر من خلالها عن فيض أحاسيسه ورغباته في تلك اللحظة من البوح، فهي تحملَ مشاعر التشكيلي ورأيه بالنتيجة وبالتالي كل الحقيقة وكل الصدق، ولابدّ أن تحمل تلك اللغة مفرداتها وصياغاتها الخاصة بالتشكيلي ليتفرّد بها عن الآخرين، وعندما اختار فاروق موضوعه أراد أن يختزل من خلاله كل مقولاته في الحياة والفن، فكانت الطبيعة والشجرة بخاصة لغته الأكثر إفصاحاً في التعبير عن ذاته الفنية وتجربته الإنسانية عبر ترحاله .

ومرسمه في جـدّة - بالسعودية، عبارة عن فراغات رحبة يدخلها الضوء من أكثر من اتجاه يرسم ويعرض فيه أعماله الكبيرة، وهو يقارب في شكله وتصميمه صالات العرض الكبيرة والمميزة، وهذا ربما كان وراء اختياره للمساحات الكبيرة للاشتغال عليها بحرية وسهولة، ورؤيتها من بعيد ومقاربتها بالطبيعة .

وهو هناك كان شارك في تأسيس غاليري حوار في الرياض وغيرها من الصالات والمعاهد الفنية في مناطق مختلفة من جدة والرياض، كما ساهم في دفع وتفعيل النشاط الفني والتشكيلي بخاصة في هاتين المنطقتين من المملكة العربية السعودية منذ أكثر عقدين من الزمن .

يذكر أن: فاروق قندقجي
- من مواليد حمص - سورية 1958 .
- درس الفن في سورية وتابع الدراسة في فرنسا «دبلوم شرف في التصوير من أكس أن بروفانس 1991».
- أقام عدد من المعارض الفردية في عدد من الدول العربية وأوروبا بالإضافة إلى سورية.
- المعرض الأحدث في غاليري الآرت هاوس بدمشق 2011.
- عضو اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين «جمعية بيت الفن – جدّة» عضو شرف في الجمعية الفرنسية للفنون «القوس والفن» فرنسا .
- عمل في الديكور المسرحي، متفرّغ للعمل الفني وهو مقيم ويعمل في جدّة - السعودية .
- قدمّ العديد من المحاضرات حول المدن القديمة وقيمها الجمالية .
- ساهم في دفع حركة الفن التشكيلي لعدد من صالات الفن الهامة في كل من جدّة والرياض، وأعماله من لوحات جدارية - فريسك، موجودة في عدد من الأماكن العامة، ومقتناة من قبل مجموعات خاصة داخل وخارج سورية .

==
* إعلامي وفنان تشكيلي.


غازي عانا* – دمشق

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق