منحوتات لطفي الرمحين تتنقـّل من الواقعية المبسّطة وصولاً إلى أقصى حدود التجريد

29 كانون الثاني 2011

لحظات استثنائية لاحتمالات تشكـّل الكتلة وارتقاءها في الفراغ

لطفي الرمحين الذي بات مقتنعاً اليوم أكثر من أي وقت مضى بالاستقرار في وطنه الذي غادره قبل حوالي الثلاثين عاماً إلى إيطاليا للدراسة ومن ثم العمل هناك بالنحت مع شقيقه بطرس الذي مازال مقيما ويعمل في «كرارا» إلى اليوم، ولطفي المقيم في فرنسا منذ ثمان سنوات عاد هذه المرّة مع عائلته إلى دمشق يبحث بجدية عن مكان للعمل فيه بعدما تأكـّد من زوال مشغله بعد فترة قصيرة في منطقة شرقي باب شرقي والذي شكـّل دائماً ملتقىً مثالياً للفنانين والأصدقاء من أجل الحوار ومناقشة الأفكار الجديدة، بالإضافة إلى مغامرات الفنان في بحثه التقني من خلال تجريبه في المواد والأدوات .


«الثور» للنحات لطفي الرمحين
في معرض آرت هاوس 2009

لطفي الرمحين يخوض اليوم وكعادته تجربة تقنية جديدة على مادة الألمنيوم والتي بدأ بالاشتغال عليها منذ ما يقارب العامين وقدم فيها أعمالاً ملفتة من حيث حجمها وتشكيلها أهمها (الثور250+250+40 سم ) الذي قدم نسخة منه في معرضه الأحدث العام الماضي بـ غالري الآرت هاوس،تمتاز أعمال النحات لطفي الرمحين دائماً بتفاوت حجومها وتنوّع خاماتها، الموزّعة بين الدمى الصغيرة والأعمال النُصبية الكبيرة، وهي المتباينة أيضاً بمستوى إفصاحها عن المعنى أو المضمون من حيث تنوع الأسلوب الذي تنقـّل بين الواقعية المبسّطة وصولاً إلى أقصى حدود التجريد الرمزي خدمة للتعبير.


التشكيلي لطفي الرمحين

بحريةٍ وانسيابية يلتّفُّ الحجمُ في منحوتةِ لطفي الرمحين على بعضه حاجزاً فراغاتٍ مناسبةٍ أو ملائمةٍ تتناغمُ فيما بينها لتنهضَ مع بعضها في الفضاء، مشكّلةً كتلةً رشيقةً ومنسجمة مع ما يُحيطُها من مؤثـِّراتٍ وأشياءَ في المكان على اختلاف طبيعتها، لتشكـّل عامل جذبٍ جماليٍ بصري يُبرِّرُ لها استقرارها الملفتْ كعملٍ نحتيٍ نصبي، كما في معظم منحوتاتهِ المتوضـّعة في بعضِ الحدائق العامة التي تضفي على الفضاء صخباً جميلاً .

ولطفي المشارك في مجموعة كبيرة من الملتقيات الدولية للنحت حول العالم، أنهى عملاً لطيفاً ومؤثـّراً من الحجر التدمري في الملتقى الدولي للنحت دمشق 2009 ، الذي استقر بالنهاية أمام مبنى السفارة السورية في العاصمة الأمريكية واشنطن. إن المتابع لتجربة النحات لطفي الرمحين من خلال معروضاته ومعارضه، ومحترفه بخاصة الذي غالباً ما يوفـّر برأيي للمتلقي فرصة مشاهدة حقيقية وبانورامية ممتعة ومثالية لاحتمالات تشكـّل الكتلة وارتقاءها في الفراغ، من تنوع الصياغات والمفاهيم التي يستند عليها في التأليف لابتكار أشكال جديدة من التعبير في النحت بمواد وخامات جديدة هي أيضاً، ومتجدّدة دائماً، ذلك المشغل (المهدّد بالزوال اليوم) وبما يحتوي من منحوتات وأعمال فنية متنوعة تعود إلى فترات زمنية متباينة، غالباً ما يختزل أو يعكس هذا المكان مساحة واسعة من مسار تجربة النحات بالعموم بمراحلها المختلفة، وبخاصة هذه الفترة حيث استقدم معه من فرنسا مؤخـّراً مجموعة الأعمال التي كان نفـّذها هناك خلال إقامته لخمس سنوات تقريباً، لتركن إلى جانب المنحوتات الموجودة بالأصل في المحترف .


النحات لطفي الرمحين
مع الإعلامي غازي عانا
كاتب المقال

لطفي الرمحين النحـّات الذي ارتبط اسمه بالرخام وحجر البازلت منذ ما يقارب العقدين من الزمن لتميّز تجربته بصياغاتٍ تدلّـل على أعماله، وهو المعروف بغزارة إنتاجه وتجاربه التقنية على هاتين المادتين، فقد امتلأت حديقة مشغله بالعديد منها راكنة هنا وهناك، تنهض في المكان منسجمةً مع ما تحتويه تلك الفسحة من محتوياتٍ وأدواتٍ تخصُّ طبيعة عمله الإبداعي في النحت، وهو المجتهد على ذاته الفنية من تنوّعِ أساليبهِ بسببِ اشتغالهِ على خاماتٍ عديدةٍ، فقد أخلص لها جميعاً وربما خصّ «الخشبَ» دون غيرها محبّة خاصة، كونها أول المواد التي اهتم بها هاوياً ومازالت هي الأكثر حميمية بعد احترافه النحت، فقد تميّزت تلك الأعمال بأشكالٍ انسيابيةٍ أخـّاذة، لليونةِ سطوحِها وعلاقاتِ حجومِها بما تحجزهُ من فراغاتٍ ملائمةٍ ومنسجمةٍ فيما بينها، وهي جميعاً تستند في موضوعاتها على الإنسان كقيمةٍ عليا بأشكالها المختلفة وصياغاتها المتنوعة، مظهرةً رشاقة الجسدِ وجمالياتهِ دونَ الاكتراثِ بالتفاصيلِ التي قد تقلـّلُ من أهميةِ التكوينِ أو التأليف المبتكر، أو من روحانية شخوصه التي غالباً ما تعكس طقوساً أسطورية، بالإضافة إلى حالة الصفاء والزهد التي تغلـّف وجوهها المشغولة باختزالٍ وتبسيطٍ شديدين، حتى بدت تـُشْعِرُنا بخصوصية الموضوع المشغول بعنايةٍ وحب، وجميعها تكثـّف حالة من الوجد والصوفية التي تبدو أكثرَ وضوحاً في الوجه من الجسد المكمِّلِ للفكرة، التي يرغب بتوريط المتلقي في تلمّسها، مكتفياً بالإيحاء أو الإيماء لها بعيداً عن الأدب، مؤكّداً في الوقت ذاته على الحضور الأبهى والألطف لمنحوتاته .


من أعمال النحات لطفي الرمحين
في معرضه بالآرت هاوس - 2009

إن طريقةَ التفكيرِ هذه لم تأت صدفةً ولا إرضاءً لرغبةِ ذلك المتلقي على اختلاف مستوى ثقافته، فهي نابعة من رغبته هو في الاطّلاع على طرق تفكير الآخرين ورؤيتهم للفن وأشكال ثقافتهم البصرية، سعى إلى ذلك النحّات مجتهداً ليؤسّس للغة تعبير تخصّه هو ولا تنفصل في نفس الوقت عن الثقافة العالمية، لكونه ينتمي إلى منطقة غنية بالموروث الثقافي والمعرفي الإنساني عبر تاريخها الطويل ، ليقدم بالتالي من خلال أعماله النحتية باختلاف صياغاتها والمواد التي استخدمها جملة تشكيلية جديدة ومتجدّدة تجمع بامتياز ثقافته التي نشأ عليها في وطنه سورية، وجملة معارفه التي اكتسبها من إقامته الطويلة نسبياً في كل من إيطاليا وفرنسا مشتغلاً ومتفرّغاً للنحت وتقنياته، معتمداً لغةً سهلةً ومفرداتٍ بسيطةٍ لتصلَ الفكرةَ إلى المتلقـّي من غير عناءٍ أو وسيط، مستنداً بالأساس على النتيجةِ البصريةِ الجمالية للعمل وحضوره ككتلة مستقـلّة ومستكملة شروط ارتقاءها ونهوضها في الفراغ .

هذا الأسلوب أو تلك الصياغة تـَظْهرُ جلـّيةً من طريقةِ إنهائهِ للعمل، فمنها ما يصل إلى حدودِ الواقعيةِ المفرطة إذا كان الموضوع يتطلّب ذلك، وأحياناً يكتفي بالتعبيرِ عن الحالةِ من خلال الاختزالِ الشديدْ للتفاصيل، مؤكّداً في الوقت ذاتهِ على الفكرة ومحقّقاً الغاية وهي الأهمُّ برأيهِ ( اللياقة وجمالياتُ العملِ النحتي ككتلةٍ وفراغْ مناسبينْ )، مُوْلِياً المادةَ اهتماماً بخصائصها في النحت، وهو الذي جرّبَ معظمها الرخام – الحجر – الخشب وهو اليوم المهتم بالمعدنِ وصياغته المباشرة أحياناً فقدم فيها أكثر من عمل مميّز من حيث حضوره وارتقائه في المكان كالحصان الموجود منذ فترة في الآرت هاوس والذي انضم إلى المجموعة الجديدة من المعدن، والتي يمثّل أحدها تشكيلاً تجريدياً لحجم حلزوني في الفراغ، وآخر لثور يعكس إحساساً بضخامة الحجم، وقد صاغه بمفهوم الرولييف من الاتجاهين ومنفـّذ من مادة الألمنيوم، وشكل لباخرة توحي بأجواء الأسطورة من حيث سريالية التفكير، وجمالية ورشاقة الكتلة النحتية، كما نفـّـذَ أعمالاً بالبرونز ومزجَ أحياناً بينه وبين الرخام والحجر، وبين البرونز والخشب في منحوتاتٍ مميّزةٍ ولافتة من حيث حضورها وتميّزها، عرض مجموعة جديدة منها في معرضه الأحدث الآرت هاوس 2009، وبعضها موجودة كمقتنيات في المتحف الوطني ووزارة الثقافة.
بالإضافة إلى النحت كلغة بصرية عالية ينفـّذ لطفي الرمحين بعض الأعمال الفنية للاستخدام مثل الكراسي والطاولات وغيرها من قطع الأثاث بتقنية عالية مراعياً فيها الشكل الفني اللافت والمتانة والرشاقة في نفس الوقت، وقد عرض منها مجموعات في معارض هامة وصالات عالمية، حتى عرف كمصمّم متميّز ومنفـّذ لهذا الشكل من الأعمال التي لا تحتاج إلى توقيع ليتعرّف عليها المتلقي والمتابع لتجربة الرمحين النحتية عبر هذه السنوات من الإنتاج والمعارض العديدة .


من معرض النحات لطفي الرمحين
في غاليري أوبسرفانس - فرنسا، أيار 2010

إن النحّات لطفي الرمحين قدّمَ - وما زال - خلالَ تجربته الغنية أعمالاً نحتيةً ونُصُبية جمالية عديدة، كانت مميّزة بصياغاتها التي عكست في مجملها فضاءاتَ روحهِ التوّاقةِ إلى الانعتاق والتحرّر من كلِّ القوالبِ الجاهزةِ والاتجاهات أو المذاهبِ الفنيةِ المعروفة في تاريخ الفن، كما نعرف أعماله من أناقةِ حضورها، فهي تُظهر مهارةً فائقةً في امتلاكهِ لأدواته ووسائلِ تعبيرهِ الخاصة، ومن حرصه وتأكيده دائماً على ضرورة احترام الفنان لخصائص المادة التي يشتغل عليها، وتنفيذها بالتقنية التي تناسبها لتنهض تلك المنحوتات برشاقةٍ وتلـّتفُّ بغنج ٍ، محافظةً على علاقةٍ متكافئةٍ ومتوازنة مع الفراغ الخارجي الذي يُغلـِّفُها، والداخليِ الذي تحتويه المنحوتة بتفاهمٍ مع الكتلة الأساسية ونوع المادة وخواصها، مراعياً دائماً مجموع تلك الافتراضات والعلاقات المحقـّقة في لحظات معينة من الاشتغال حتى لحظة يقرّرُ هو إنهاءَ عملهِ النحتي، بتوافرِ قيمهِ الفنيةِ والتعبيرية المتضمنة دائماً وبامتياز ذلك التفاهم والتناغم مابين جماليات الشكل من جهة، ورمزية الموضوع أو مضمونه الروحي والفلسفي من جهة ثانية .

إن أهميةَ تجربة لطفي الرمحين تكمنُ في أكثر من ميزةٍ جعلت من حضورِه قوياً ومتفرّداً في الساحة التشكيلية السورية، والأكثرُ دهشةًً وقبولاً لدى المتلقي، أهمّها برأيي تبقى ثقةُ الفنان بنفسه وتمكُّنُهُ من أدوات تعبيره المختلفة إلى درجةٍ تجعلُ المتابعَ لأعماله يظنُّ أنها منفّذةً بتلقائيةٍ وسهولة .
لطفي الرمحين من النحاتينْ القلائلْ الذينَ يجعلونكَ ببساطةٍ تكتشفُ أهميةَ احترامِ خصائصَ كلِّ مادةٍ على حدة، من شكل الصياغة أو طريقةِ المعالجة التي تخصُّ كلَّ خامةٍ دونَ غيرِها، محقـّقاً أميزَ حالاتِ ارتقــاءِ الكتلةِ في الفراغ، من انسجامِ الصياغةِ مع نوعِ المادة وإمكاناتها في النحت، من أجل صياغةِ حجمٍ ينهضُ برشاقة متناغماً مع الفضاء الذي يحتويه بحب.

يذكر أن لطفي الرمحين:
ولد في السويداء 1954 .
درس النحت في كرارا – ايطاليا 1985 .
متفرّغ للعمل الفني .
أقام مجموعة من المعارض الفردية داخل وخارج سورية منفرداً أو مع شقيقه النحات بطرس الرمحين.
أسّس مع شقيقه بطرس مؤسّسة فنية ومركزاً للفنون تعليم النحت للأجانب في كرارا - بإيطاليا .
شارك في أكثر من ملتقى ومهرجان للنحت داخل وخارج سورية.
يعيش منذ فترة ويعمل في فرنسا .
كُلـِّف بتصميم وتنفيذ أكثر من عمل نصبي في مجمعات وفنادق كبيرة في العالم .
المعرض الأحدث للنحات في الآرت هاوس – دمشق 2009.
الملتقى الأحدث الدولي للنحت – دمشق 2009 .
أعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة السورية والمتحف الوطني بدمشق ومتحف دمّر وضمن مجموعات خاصة داخل وخارج سورية.

==
*
نشرت هذه المادة في مجلة الحياة التشكيلية العدد 91


غازي عانا - دمشق

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

الطاهر جميعي:

تحياتي الي الصديق لطفي ،سررت لعودته الي دمشق،بالتوفيق
طاهر

المغرب

خالد هلال الرمحين:

لنا الشرف بأن يكون الفنان لطفي من عائلتي الكريمة ............ بالتوفيق يا عم

الامارات العربية