التشكيلي شريف محرّم في الذكرى الثانية على رحيله

29 كانون الثاني 2011

عمر واحد لا يكفي لأن يقول المبدع ما لديه إني أرى بداخلي عوالم واسعة

في لوحات شريف محرم هناك عند النهايات التي غالباً ما تشبه تخوم القرية، وقبل المغيب نكتشف شكلاً متأخـّراً من الحياة، للون آخر وضوء مختلف آخر، على سطح اللوحة الغني بالمؤثـّرات حيث تتداخل الأشياء بطريقة يصعب فصلها، مابين «الرؤية » التي تعني المشاهدة لما هو في الواقع، وبين «الرؤيا» أي الحلم الذي هو الضوء وللون والحياة ؟ ذلك الضوء الذي مازال منبهراً به الفنان، الذي جاء من هناك حيث ولدته أمه في الحقل على تخوم القرية بوضح النهار، أم بالشكل الذي غالباً رغم اختزاله بقى حاضراً بقوة وباللاوعي، وكأن الفنان في كل مرة يعزّز فشله في ضبط إيقاع خطوطه المتمردة عليه أحياناً وعلى حدود الشكل نفسه لكثير من الحرية خدمة ً للتعبير دائماً ؟ وفي الحالتين لابد برأيي من ملاحظة تلك المشاعر المتدفـّقة من تنازع كل من الضوء واللون على الحضور في مناطق اللوحة المختلفة، فاشتعال اللون في معظم المساحة يحول المشهد إلى مهرجان بصري مدهش .

للوهلة الأولى على الأقل وفي التفاصيل نكتشف كثيراً من الوهم أو الحلم الذي يبدّد اعتقادنا بأن ما نشاهده أقرب إلى التجريد اللوني، بينما هو في الحقيقة واقعي سحري فيه غنى وحساسية تفوق معرفتنا بالقواعد والنظم الأكاديمية في الرسم والتصوير، أجل هناك في الوسط حيث للدهشة معنى آخر من متعة العين في الشرود وراء تلك النوافذ التي أوهمنا بأنها مجرّد مربعات من الاحتفاء باللون، حيث يكشف الضوء بصعوبة رغم غزارته على تلك المناطق مفاتن المدينة التي تختبئ خلف نوافذها بيوتات الطين، تلك التي حملها الفنان معه من قريته (عرب عزّة) حين غادرها قبل أكثر من ثلاثين عاماً نازلاً إلى حلب ومنها فيما بعد إلى دمشق .


من أعمال التشكيلي شريف محرم

إذن في دمشق هنا بدأ رحلته مع اللون حين اكتشف أن باستطاعته أن يحضـّره بنفسه، فانتقل من مرحلة الهواية إلى التعلّم والاحتراف، حيث سكن لفترة في أحد الأقبية التي لا يدخلها الضوء فعوّض ذلك بلوحاته التي غمرها من ذاكرته التي تفيض بضوء القرية المنفتحة على الشمس من كل الاتجاهات، وطبيعتها المتنوعة التي يختلف لونها أكثر من مرة في اليوم بحسب تلقيها للضوء، وهكذا اتكأ الفنان شريف محرم بأريحية على ضفاف مخيلته وجدار الذاكرة الذي بقي يئن تحت وطأة الجمال من حميمية الأمكنة ودفئ الحكايا التي تخبئها الأيام في ثنايا الضلوع، هناك عند النهايات في لوحاته التي غالباً ما تشبه تخوم قريته (عرب عزّة).

شريف محرّم الذي رحل العام قبل الماضي في مثل هذه الأيام، هو كغيره من الفنانين، قد لا يختلف عنهم في طريقة تعاطيه مع العمل الفني، إلاًّ أنه من القلائل الذين اعتبروا الفن قضيتهم الأساسية منذ كان طالباً في كلية الفنون الجميلة بدمشق والذي تخرج منها1981 ، فتمثّل ذلك الهمّ في الشكل والمضمون، هو كان طالباً مميّزاً ومجتهداً لكنه أيضاً كان مختلفاً عن الآخرين في مظهره الذي اختاره لنفسه مقتنعاً، ومقنعاً الأساتذة قبل زملائه باختلافه، فكان مقلـّداً للفنان بيكاسو في شاربيه المعكوفين ومشيته وبعض تصرفاته التي كانت مقبولة منه، حتى اعتقد كثير من الطلاب الجدد في ذلك الحين بأنه واحد من الأساتذة، وربما كانت ثقة شريف بنفسه أولاً وبفنـّه وراء ذلك السلوك الذي بقي عليه (رغم أزمته الصحية) حتى رحيله، ولكن دائما كان رغم الغرور الذي يبدو عليه من سلوكه مثالاً للتواضع والقدرة على محبة الآخرين .

في معرض الفنان شريف محرم الأخير بـ غاليري كلمات بحلب، والذي لم يمهله الموت ليكحّل عينه بفرح الآخرين وردود أفعالهم على أعماله التي عزّزت لديه الثقة بنفسه وبفنه من جديد، وأعادت التذكير بأهمية تجربته كواحد من الأسماء الهامة والحاضرة اليوم على الساحة الفنية بحلب وسورية، ولوحاته في ذلك المعرض كانت كبيرة في مقاساتها، تفيض بالمفردات اللطيفة وتوثـّق لأجمل الأمكنة وأقربها إلى روحه، والتي مزج فيها الفنان بحب بين معلولا، دمشق، حلب، وبيوتات قريته في الشمال، مسجـّلاً أصدق اللحظات هناك، وكأنه شعر بضيق الوقت الذي لن يمهله ليرسم أكثر، حيث أقام في السنوات الثلاث الأخيرة أكثر من عشرة معارض ومشاركات مهمة في أكثر من مكان وخاصة بين دمشق، حلب وبيروت، وغادرنا شريف وبقيت تلك اللوحات معلّقة على جدران الصالة التي كانت تريد أن تحتفي بلوحات شريف لأمد أطول ، ولكن ؟

يحاول شريف عند الحديث عن أعماله أن يرسم بالكلمات كثيراً من الصور، يبدأ بالفن وينتهي بالشعر والتصوّف، وبعض الفلسفة في علم الجمال المتداخل مع الحب والفن والإنسان ، يتحدّث بالأدب ويسترسل بالحلم ويحلـّق بلوحته كالنسر عالياً وبثقة يتفوق فيها على ذاته، عندما يعتقد أن قريته مخبأة في معلولا المتوالية الذهبية، وأنه من خلال اللوحة يصنع للناس الطيبين أعياداً خاصة وربما تكون بالنسبة للبعض أحزاناً خاصة .

قال عنه الفنان فاتح المدرس: «إنه نبات عجيب تفتـّح على حين غرة، أدهشني و أفرحني» .
وهذه بعض السطور من نبيه قطاية: « يحمل بقايا صور من قريته وطفولته، محفورة في ذاكرته كالوشم يستمد ألوانه من الطمي الفراتي، والآجر المشوي، والجرار المتكئة، يرسم بيوناً طينية متواضعة، تنبعث الأصوات المكتومة من نوافذها، وتتسرب الحكايا الضائعة من أبوابها» .

عندما اكتشف شريف محرم لأول مرة أن الآخرين مصدقين بأنه فنان، كان ذلك وهو ما زال طالباً في الكلية وهذا ما اضطرّه لأن يصدق ذلك فحاول من يومها أن لا يشبه أحداً وأن يكون نفسه فيما يقول ويفعل -في الفن على الأقل- وأجمل ماقاله شريف في ذلك اللقاء : «عمر واحد لا يكفي لأن يقول المبدع ما لديه، إني أرى بداخلي عوالم واسعة» لو تثنـّى للفنان شريف محرم أن يكمل بعض المشوار بتلك العزيمة، أو ذلك الشكل من الإقبال على الحياة تـُرى ما الذي كان يمكن أن يقوله بعد ذلك ؟

لقد رحل الفنان شريف محرم وهو في أحسن الأحوال الصحية والمعنوية كانت الدمعة تسبقه في التعبير عن فرحته بنجاح المعرض (الذي كان الأخير في حياته) واعتزازه باللوحات التي أنجزها بيد واحدة وقلب مهدّد بالتوقّف في أية لحظة، لكنه بقي ينبض بالحب حتى فاض على حواف اللوحة التي بقيت هي الشاهد على رهافة تلك الأصابع التي تركت بصمة مختلفة ومؤثـّرة في ساحة التشكيل السوري المعاصر .

يذكر أن شريف محرّم :
- من مواليد عرب عزة – جرابلس - إدلب 1954.
ـ خريج كلية الفنون الجميلة قسم التصوير1981.
ـ أقام 25 معرضا فرديا داخل القطر وخارجه.
- آخر معرض فردي 2008 دار كلمات –حلب.
ـ له أعمال مقتناة في فرنسا وإنكلترا وألمانيا والهند.
ـ بقي يعمل ويعيش مع ابنه الوحيد في حلب .
- رحل الفنان شريف محرم 6/1/2009 في منزله بحلب إثر نوبة قلبية حادة .


غازي عانا - دمشق

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق