فضاء نزار صابور

حول معرض الفنان نزار صابور
ثنائية الغموض واليقين

فضاء نزار صابور

مع بداية التسعينات، عاد نزار صابور من موسكو حيث كان يتابع دراساته العليا في فلسفة الفن، وبدأ يتردد اسمه في فضاء الفن التشكيلي السوري. واليوم، وبعد عدد من المعارض التي عرفت الناس بأعماله، تكرس اسمه كواحد من أهم ممثلي الحركة التشكيلية السورية الشابة. هذه الحركة التي تتميز ببحثها الجاد المتنوع عن أشكال جديدة في التعبير تخرج من المصنف والمكرر وتعد بمستقبل إبداعي وضاء.

وقد تميز عمل صابور منذ معرضه الأول في دمشق (1991)، وحتى معرضه الأخير في كنيسة الصليب والذي يقدم غاليري أتاسي حالياً مجموعة منتقاة منه، تميز بالبحث الدؤوب في كثافة ثنائية فرضت نفسها على الإدراك البشري وأنتجت من جدل حديها، من تصارعهما، كبرى التصورات البشرية حول الخلق والخليقة. إنها ثنائية الغموض والكشف، الشك واليقين.

من إمعان الفكر في دوامة هذه الثنائية نهضت أعمال صابور التسعينية. وكان ثمة، منذ البداية، ثلاث تيمات، أو موضوعات، يعالج الفنان في إطارها جدل الغموض واليقين وهي: المدينة والمشاعر الإنسانية والمقدس.

في لوحاته التي تجعل من المدينة موضوعاً لها، تضيع التفاصيل في تداخل لوني كثيف يشكل كتلة تعجز العين عن سبر أغوارها، بل تكاد هي الأخرى أن تمحى أو تندمج في خلفية اللوحة لولا تدخل اللون لإزاحة الأفق أو الفضاء ببعض الدرجات اللونية، وكأن الفنان، وكأي إنسان ينظر إلى المدينة من بعيد، يتساءل عن حياتها التي مهما برز منها للعيان تبقى سرية وكتيمة. لكن الفنان يعكس أسئلته ألواناً، لكل سؤال لونه، حتى تتراكم الألوان بقدر تكاثف الغموض. لكن شيئاً واحداً يعصى على الانصهار في لجة الغامض فيخترقها تحدياً وإثباتاً ليقينية وجوده، إنه النور. لكننا نعرف أنه حيث يوجد النور يوجد الإنسان، والنور اليقيني المنبثق من غموض المدن أو من ضبابية الشوارع المزدحمة بالآليات والتلوث، والذي يمنحه صابور هذه النفحة الإشراقية، هو ذاك الآتي من داخل الإنسان. إنه نور يشع كجذوة تواقة لمعرفة الغامض وكشف المحجوب، وهو الوحيد الجدير بأن يكون، أما ما عداه فإن هو إلا دنيا غرور. إن الصراع القائم في المدينة هو إذن، بالنسبة للفنان، صراع بين غموض الوجود ويقينية الوجدان. والفنان شاهد ومشهد في الوقت ذاته. شاهد على هذا الصراع، وفضاء يجري هذا الصراع في جنباته، لذا نجد أن الموضوع الثاني الذي يجتهد الفنان في إمساك ثنائية الغموض واليقين في إطاره هو المشاعر الإنسانية، حيث يعجز الإنسان عن تحديد شكل هذه المشاعر لكنه لا يشك بيقينية وجودها.

نجد مثلاً في لوحة عنوانها «حب في الأصفر، 1996» سدفين، طيفين يصعب استشفاف طبيعتها وتختلط الإمكانات. قد يكونا ملاكين أو رجلاً وامرأة وطفلاً، أو احتمالاً آخر ضمن متتالية الإمكانيات. غير أن نقطتين، تكادا أن تكونا قلبين، يصد احمرارهما غزو الغامض ليعلن يقينية الحب. كذلك في لوحة أخرى عنوانها «نشوة، 1994» ووسط جو سديمي كتيم لا يشي بمكوناته، نرى تصاعد لمسات الفرشاة في محور اللوحة لتصل إلى ذروة ذهبية وخضراء، إلى زبد تفنى فيه حركتها. لا يستطيع الفنان الإمساك بالنشوة، هذا الشعور المطلق الغموض، لكنه يرفعها (بالمعنى المعماري للكلمة) لوناً وحركة إثباتاً ليقينيتها.

أما الموضوع الثالث الذي يبقى أكثر الموضوعات إلحاحاً وتكراراً في أعمال صابور، والذي يسيطر على لوحات المعرض الذي نحن بصدد الكلام عنه، فهو موضوع المقدس.

يعالج الفنان هذا الموضوع عبر مداخل عدة: النصب، الأبواب، الأيقونات الشعبية، الأيقونات المعاصرة ...الخ. وتنهض هذه المعالجة على ركيزتين اثنتين: الكشف عن المقدس المحجوب كغاية ومنتهى، واعتماد أبجدية قدسية، روحانية، كوسيلة وأداة.

الكشف عن المقدس
يهيمن على معاجلة صابور لموضوع المقدس توق صوفي لمقاربة عالمه ومحاولة استجلائه. هذا العالم الذي لا يناقش الفنان احتماليته بل يسلم بوجوده بالبداهة. وهو عالم قائم ليس في الهناك فحسب بل في الهنا والآن أيضاً. عالم وسعه الكون المادي المعين وغيره من «أكوان» روحانية مفترضة. صفة هذا العالم الأساسية كلية حضوره (أينماكانيته)، لكن العين البشرية التي أعمتها مادة الوجود تقصر عن الوصول إلى معرفته، لذا يلبس الفنان لبوس المبشر الهادي ويقدم للمشاهد مفاتيح، فنية تماماً، تساعده على دلالته في ضرارته، ونحن سواء وافقنا على تصور الفنان للعالم أم لم نوافق لا نستطيع إلا إبداء الإعجاب بجمالية وخصوصية ما يقدمه من مفاتيح تكون بحد ذاتها جزءاً مهماً من عمله الفني. أي أن الفنان لا يقحم في إبداعاته أشكالاً غريبة أو تقنيات إيضاح تقتل الفني في المبدع، وإنما يجعل هذه التقنيات وتلك الأشكال عناصر من عناصر الفني فيه.

أولى هذه التقنيات نتلمسها في عملية محو إطار اللوحة والأيقونة. فالفنان، وإن كان يبني حدود لوحته عبر زيادة سماكة الخشب المحيط، زيادة تشي بوجود إطار للوحة يجمع تفاصيلها ويرغم عين المشاهد على تبئير حركتها في حدوده، إلا أنه يهب للوحته حرية تجعلها تفيض فناً، لتأتي على ما بدا وكأنه مشروع تأطير. هذه التقنية التي تبدو للوهلة الأولى توسيعاً لمساحة اللوحة أو تمديداً للعالم القدسي الذي تقدمه، تخدم، بشكل أساسي، وجهة نظر الفنان الذي، بإسقاطه للحواجز (الإطار) الفاصلة بين الفضاء الذي يجول فيه المشاهد وموضوع اللوحة، يجعل من هذا الموضوع جزءاً من ذلك الفضاء. وبذلك يحقق عملياً وفنياً فكرته بأن المقدس هو أيضاً هنا في هذه الدنيا التي نعيش. إن «احتلال» الإطار ليس بأي حال مرحلة في الصراع بين المادي والروحاني، بين الناسوتي واللاهوتي، بين المحسوس والمحجوب لأن هذه الثنائيات لا تبدو موجودة، أصلاً، في ذهن الفنان.

وثمة تقنية أخرى ينحو فيها الفنان منحى يبدو معاكساً تماماً لذلك المرصود في التقنية السابقة مع أنها تفضي إلى الغاية نفسها: فتح عيون المشاهدين على عالم المقدس الذي يحيط بهم دون أن ينتبهوا له. في التقنية الأولى كان المقدس هو ما يفيض من (سجنه) متجهاً نحو الناس، أما هنا فإن الفنان يمسك بيد الناس ليقودهم إلى عالم المقدس. أما الجسر الذي يطلب منهم الانتقال عبره فهو جسر ذو طبيعة ثنائية: مادية تنتمي إلى عالم الواقع الذي يقف فيه الإنسان، ونورانية غامضة تنتمي إلى عالم المقدس الذي يتطلع إليه الفنان، أما وسيلة العبور من عالم إلى آخر فإنها فكرة مجردة تتقمص صورة شكل هندسي تارة أو تذوب لوناً تارة أخرى.

في لوحة، أو عمل، «الفضاء والجنة، 1998» ينقسم العمل الفني إلى قسمين: لوحة كبيرة رسمت باللون الأخضر مع بعض التعيينات المقدسة التي تتكاثف في القسم العلوي من اللوحة، ونصب خشبي وضع أمام اللوحة ملون بنفس لونها الأساسي ويحمل على رأسه جرة من فخار. ويتم الجسر بين القسمين المنتمين إلى العالمين المختلفين بواسطة اللون: اللون الأخضر الذي يجمع النصب إلى أرضية اللوحة، واللون البنفسجي الفاتح الذي يجمع الجرة إلى أبعد تموجات المقدس المتجلي في سماء اللوحة.

وفي عمل آخر أطلق عليه اسم «أيقونة معاصرة، 1998»، نجد، إلى حد ما، نفس المعمار المستعمل في العمل السابق: لوحة كبيرة تمثل قبة مقدسة قسمت إلى حجرات تحتلها أسداف ملائكة وقديسين، ونصب أمام اللوحة على شكل عامود علته نصف دائرة مصنوعة من شريط معدني غليظ يرسم انحناءة القبة. وهنا يتم الجسر بين عالمين عبر التمثيل المجرد للشكل نصف الدائري وكذلك عبر الألوان المستعملة في النصب وفي اللوحة في الوقت نفسه.

وهذه التقنية تتكرر أيضاً في مجموعة لوحات «حراس التلة» لكن مع التغييرات الطفيفة في التنفيذ وليس في التصوير. فهنا لا ينفصل الجزء المادي من المعبر بين العالمين عن اللوحة تماماً، لا يتحول إلى نصب مستقل، وإنما يأخذ شكل رجال من خشب، يحمل بعضهم صفات قداسة. هذه الأشكال الخشبية الصغيرة تمثل حراس التلة المقدسة الذين يقفون على إطار اللوحة، على ضفة عالمها، فلا هم من ذاك العالم ولا هم من عالم المشاهد. أي أنهم الطريق الذي لابد من سلوكه لمن أراد أن يعبر من العالم المادي المتعين إلى العالم المقدس المرسوم.

الأبجدية المقدسة
يلجأ نزار صابور في رسمه المقدس إلى عناصر هندسية أولية تتناثر على سطح لوحاته لتغدو كالأطياف حيناً، أو ترخي بثقلها على كامل اللوحة لتؤطر عالمها حيناً آخر. لكن في كلا الحالتين يبدو واضحاً مدى تعلق الفنان بهذه العناصر التي تشكل أبجدية يعيد تركيبها في كل لوحة بتوليفة قادرة على إعطاء موسيقاها الخاصة. هذه العناصر المهيمنة هي:

1- المثلث: يرسم المثلث في لوحات صابور عدداً لا يستهان به من العناصر التي قد لا يكون لبعضها علاقة مع المثلث، لكنها تتقلص هنا إليه. فالمثلث هنا هو شكل الحجاب أو التعويذة المعلقين على النصب، وهو شكل أسقف الكنائس وقمم المآذن وغطاء رؤوس النساك والأولياء، والنوافذ شكلها مثلث، وهو يظهر مستقلاً وملوناً كمعلم أو كقرينة تتراءى من ضباب العوالم الغامضة. كما يظهر في كثير من اللوحات الرقم ثلاثة الذي هو أساس المثلث، كما في لوحات «حراس التلة» التي تأخذ شكل ثلاثيات متجاورة ومتصلة. ومن نافل القول أن نذكر هنا بما للمثلث أو للرقم ثلاثة من مكانة في التصورات الدينية والروحانية من الثالوث الأقدس إلى استعماله في الصروح الدينية القديمة، كرمز للنار والذكورة (إذا كان رأس المثلث متجهاً نحو الأعلى) أو كرمز للماء وللأنوثة (إذا كان رأسه نحو الأسفل). ونجد بالمناسبة هذين الرمزين مرتبطين في أكثر من لوحة في المعرض، ويقال إن خاتم سليمان كان يحمل رسم مثلثين متعاكسين.

2- نصف الدائرة: هي شكل التلة المقدسة التي تعلوها المزارات والمقامات، وهي شكل قبب المساجد والكنائس والمزارات، وهي شكل الهالة النورانية التي تحيط برؤوس القديسين والملائكة، وهي شكل الأهلة تملأ السماء. ومن المعروف أن غالبية التصورات الدينية للكون رسمت السماء على شكل قبة. كما أن شكل نصف الدائرة استعمل، إلى جانب المربع، كوحدة معمارية أساسية في بناء دور العبادة.

3- المربع: يرسم المربع أحياناً شكل الأماكن كالمساجد والمزارات والكنائس أو يرسم فقط أجزاء منها كالنوافذ. لكنه يتواجد أحياناً بشكل مستقل كعنصر ممثل للعالم. إذ، كما هو معروف، كان المربع دائماً رمزاً للأرض، على العكس من نصف الدائرة التي رمزت دائماً إلى السماء. لكن هذا العنصر يكتسي في بعض اللوحات أهمية خاصة لا تحظى بها بقية العناصر. إذ يلجأ إليه الفنان لخلق الحركة في داخل اللوحة. ويتم له ذلك من إضافة مربعات متساوية من القماش على مسافات ثابتة فوق أرضية اللوحة. هذه الحركة المولدة داخل الوحدة المكانية تنتج زمناً ضمنياً، هو الزمن الخاص بالعوالم المقدسة. من المحتمل أن يكون الفنان قد استعار من الزخرف العربي (الأرابيسك) أسلوبه في تكرار الوحدة المعينة لاختلاق الزمان، لكن تكرار المربع، وإن كان يؤدي وظيفته الزمانية هذه، يدفع بالموقف من المقدس إلى تخوم روحانية جديدة، إلى نوع من الباطنية. إذ أن توضع المربعات المتساوية والمتوازية ضمن مساحة اللوحة يذهب بذاكرة المشاهد إلى المربعات السحرية التي يعود استعمالها إلى الأزمنة الغابرة والتي لا يكاد يخلو كتاب في السحر وفي التنجيم من ذكرها ومن شرح قواها المزعومة.

إن لعناصر هذه الأبجدية، إضافة لدورها البنائي والدلالي، دوراً كبيراً في أعمال نزار صابور، لأنه يستعملها كقرائن تعينه على توصيف اللطائف أي «الإشارات دقيقة المعنى التي تلوح في الفهم ولا تسعها العبارة» كما يقول ابن عربي. المثلث والمربع ونصف الدائرة أبجدية تكتب الوجدان رسماً وتثبت بحقيقته يقينية هذا الوجدان.

المقدس، في نظر صابور، لا ينتمي كما رأينا إلى الغيب فحسب، بل هو محاريث ومساكن لحياة الإنسان وأرضه. إنه موجود لكنه، كما الكون وكما الإنسان نفسه، غارق في لجة الغموض ولا سبيل لمقاربته إلا بالوجدان.

إن نزار صابور يقف أمام العالم مندهشاً، يتأمل فيه عميقاً طلباً للمعرفة، ولا يصل إليها. لكنه برهافة الفنان يقبض على أطيافها، فينقلها أمامنا نصباً ولوحات وأيقونات. في كل أعمال صابور دعوة لإمعان النظر في كتاب العالم المفتوح أمام ناظرينا وقد تكون هذه الدعوة ضرورية ومناسبة في هذا الزمن الذي فقدت فيه الأشياء معانيها.

د. حسان عباس
ناقد من سورية


حسان عباس