فضاء نزار صابور

الفنان نزار صابور
تجربة فنية متميزة في مرسمه الجديد

فضاء نزار صابور

- 1 -
في أي مكان تزور الفنان نزار صابور ستجد أنه يعبر برزخاً ضوئياً ونورانياً، بين أعماله فيما قبل، وأعماله فيما بعد. أو حضوره في الإيقاع الزمني الذي يتعابره، خلال تعبيره عن التصورات والخيالات والأحلام، وحتى الكوابيس التي يمر بها، نتيجة صخب العالم واصطراعه، واضطرابه من حوله. وهو يمتص هذه المؤثرات عبر الرؤيا التشكيلية التي يتجاسدها، ويتجمهر ويتمركز فيها. حين يكون عليه العودة دائماً إلى الينابيع، إلى التراث الذي يخامره، والذي يفجر عناصره عبر لوحاته، التي كانت دائماً مثار دهشة ومثار جدل فني وجمالي ونفسي. فيما يتقارؤه ويتكاتبه من هذه التصورات. وفيما يخترع ويبدع من أبجديات تشكيلية تساعده دائماً على مد جسور ما بين مراحل تشكيلية يتغير فها الموضوع الذي يتطارحه، ويتجارحه، ويغامر فيه، وبين أدواته أو لغته الفنية التي يعبر فيها عن هذا الموضوع. وكان طويلاً ما يعتمد الألوان، وأحياناً غلبة اللون الواحد على بعض اللوحات، أو الفضفضة في اشتقاقاتها، وكيماوياتها، حتى يصير في قرابات النور، وفي تعاشقات واعتناقات هذه الألوان التي تتغشى، وتنتشر بعيداً عميقاً في لوحاته، بحيث يعتمد كثيراً على أناقة وصفاء ونصاعة هذه الألوان، وعلى الاحتفاء والاحتفال بالعين التي تبصر وتتباصر هذه الألوان بإيحاءاتها ودلالاتها، وقدرتها على الإفصاح والوضوح. كذلك على الغموض الشفيف والرهيف الذي يستزرعه فيها، ويستنبته من جواهرها، وأعراضها معاً. وكأن نزار صابور يغني فناءً دابقاً حلواً في عسل الألوان، في كثافاتها ولطافاتها، وهو دائماً ما كان يروحنها، ويجعلها عميقة، وباطنية، وجوانية، كما هي تتمظهر خارجياً، وتشكل جاذبيات حانية حادبة ورؤوماً تخلق تأثيرات عارمة. حتى أنها تذهب لخلق إشكاليات لا حصر لها من حيث التأويل والتدويل، والقرار والجواب في إيقاعاتها وموسيقاها، إلى درجة العماء والوضوح لبث المشاعر والأحاسيس، في حالات الوعي واللاوعي التي يعتمد الفنان ترجمتها من خلال تعبيرية الألوان والأشكال!

وحسناً فعل نزار صابور في تحولاته وجسور عبوره الفنية بين مرحلة وأخرى. بحيث أتاح لنفسه حرية التعبير الفني، لامتلاكه الأدوات والعناصر، والألوان التي تنفسها وامتصها بطريقة مادية وروحانية معاً. ففي أول معرض له عن الأبواب القديمة في اللاذقية - وكانت اللاذقية تتجدد عمرانياً - وضع مدماكاً أساسياً في استيحاء الزمن واللعب فيه عبر المادة وتشكيلات الخشب العتيق في ماضي الأيام الآتية. ولعب بعناصر الخشب والمعدن، وكل الحفر الموجود في الأبواب والنحت، والروح الشعبي الإنساني فيها. وحين زرته الآن في مرسمه، جسد الباب الخشبي الجديد للمرسم حقيقته، في نحته ولونه، وكأنه اختصر معرضه القديم جداً في هذا الباب الذي جاء آية فنية متكاملة، تعبر عن حقائق نزار الجمالية في تجربته الفنية الطويلة والعميقة التي اشتهر بها، وأقصد تلك التجربة الأساسية لديه، وهي تحديث الأيقونة، والمزج في فنيتها، بين بيزنطيتها الأصلية، وبين الفنون العربية الإسلامية، كالزخارف والأرابيسك والرموز التي تتناثر في تلك الفنون، وبأن زاوج بين أبراج الكنائس ومآذن المساجد، وزاوج بين الهلال والصليب معاً، في فضاء لوحاته التي كان هاجسها الإنسان، عبر شرقيته الإشراقية، وعبر غنوصيته الصوفانية الآن. حيث يبزغ من رماد مرحلة وسوادها، إلى بياض مرحلة، يترجح فيها بين الصحو والمحو، والاحتفاظ ببروق الألوان ونيازكها وشهبها، عبر فونات لونية شاسعة، كالأسود والأبيض!

ولأن تطور التشكيل وحداثة استخدام المواد طرحت تحدياً جديداً على الفنان، فقد ذهب نزار إلى هذه المغامرة بكثير من الحساسية والرهافة والوعي، وكانت له تجاربه المميزة في ذلك، حيث لم تغب الألوان عن الفن المفهومي الذي غامر باتجاهه، وفن الإنشاء والتركيب والتفكيك، دون أن يتخلى عن اللوحة، بل عمد بطريقة ما، إلى مزج النحت بالرسم، وتكاتفت الألوان لديه وتكثفت. وكانت الأيقونة أساسه الراسخ في هذه التجارب، ثم ذهب إلى التراث الشعبي، والأيقونة كفن هي تراث شعبي أيضاً، إلا أنه غامر باتجاه عنتر بن شداد وعبلة، من باب إيحاءات البطولة، وإيحاءات الحب. والحقيقة أنه تناول ذلك بنوع من الفانتازيا الطفولية، حيث كنا ونحن صغار نسمع في المقاهي سيرة عنترة بن شداد على لسان الحكواتي الراوي لذلك. إلا أن أبا صبحي التيناوي، وخليفته رفيق شرف رفعا من سيرة عنترة ورسماها، حتى انتشرت رسومهما إلى درجة الأيقونة. وجاء نزار صابور فقبض قرائن ومميزات التجربتين، وأنتج لوحات برؤيا جديدة، وجداريات من مقاطع تركب جانب بعضها. أي استعرض فيها - بكثير من الروعة والإبداع واستيحاء الحب - سيرة عنتر وعبلة. ونجح أيما نجاح في ذلك، بل كأنه ورث، وامتلك، وصاغ وحول كيماوياً تراث ملحمة عنترة التشكيلي، وأضاف إليه رؤيته الجديدة التي استطاعت الحضور حضوراً باهراً، بل كأن نزار هو الأقوى في تحويل سيرة عنترة إلى أيقونة شعبية تصويرية، وازن فيها بين مفهوم البطولة، ومفهوم الحب، بتعبيرات وعناصر فنية جديدة، في لوحة مرسومة منحوتة معاً!

- 2 -
وفضاء الفنان نزار صابور التشكيلي شاسع واسع، عميق ومديد، وكانت لوحاته دائماً مميزة في معالجة الفضاء الخيالي والنوراني، وفضاء السماوات حقاً وحقيقة. وكانت توازنات الأشكال دائماً محمومة محملة في فضاءاتها، وخاصة، فضاء الإنسان، فضاء الطبيعة، فضاء المدن، فن موسكو موطن دراسته الجمالية، إلى اللاذقية، إلى دمشق مكان عمله. وهو يتلاعب بالفراغ جمالياً، وله ميزات وطموحات في معالجاته من باب تجويد الألوان، خاصة فضاء الأزرق الذي هو لديه داخلي وصوفي بامتياز، حتى لو كان في اللاذقية كمدينة بحرية لديها فضاءات زرقاء، وقد رسمها بالأبيض، حين صبغت المدينة بالأبيض إبان دورة المتوسط الرياضية. هذا كان قديماً، لكن نزار ذهب إلى الحياة في الرماد، ذهب إلى الأسود وإيقاعاته عقب الحرب الأمريكية على العراق. وكأن روحه احترقت مع حريق جدران بغداد التي رسمها شاكر حسن آل سعيد بالأسود وألوان الحريق، ونزار كان لديه ألوان الحريق والخشب المحروق منذ فن الأيقونة، لكنه ذهب إلى الفحم، دق الفحم والرمل في لوحته عن جدران حياته، أو صفحات حياته، حتى أنه وصل إلى حريق وفحم الطبيعة الصامتة، ولم يكن ذلك سوى تجربة إبداعية رائعة عرضها قبل أعوام في بيروت، في المركز الثقافي الفرنسي، ولقيت الكثير من الصدى والاستحسان. كما أن نزار عرض في دمشق، ولبنان، والكويت، وباريس. وشارك في معارض في إسبانيا وسويسرا، وكانت أعماله لافتة دائماً، حتى راكم تجربة فنية مميزة. ولا يمكن لنزار أن يحتبس نفسه في أسلوب أو موضوع، حتى لو كان تعبيرياً بامتياز، والآن يدخل في البياض، في الصحو والمحو، ويستبطن روحه، كما نعرف، كأنه يذهب في الأسود والأبيض، الموت والحياة، الظلمة والنور. وربما الله والشيطان، الخير والشر. ونزوعات نزار التشكيلية خيرة بامتياز إلا أنه في هذه المرحلة البيضاء، الملونة، المذهبة، وهو يرث اللون الذهبي من فن الأيقونة، ولديه مهارة وحساسية استخدامه في أعماله الجديدة. وكأنه يبهر من يبصر هذه اللوحات، ويحيله إلى فرح منسي، وإلى حنين مفقود، وإلى حياة هاربة!

وأعتقد أن نزار صابور كان يلجأ دائماً إلى ترجمة الرؤيا الجمالية التي يمتلكها في لوحاته، ثم يدعمها بتصوراته وخيالاته وأفكاره. لكن ما كان يسوقه دائماً هو حدسه وذوقه، وروده اللوني الشهي الشجي الذي يبلغ حد السحر في استخدامه. وهو يذهب في تعازيمه ورقاه، ورموزه وأجبته وطلاسمه إلى جواءات، يختلج بها ويتلجلج، بل يتهدج ويضرع، حين لا يتخلى عن عنصر القداسة والإيمان لديه. وهذا ما يتجلى في فن الأيقونة، وحداثتها، وشفاعتها وشفاءها لديه، مما أهله ليكون من فناني المرتبة الأولى، والمتميزين إبداعياً، وتقنياً أيضاً، فهو في مساراته ومساربه إنساني يتضامن ويتعاضد مع الإنسان، ويصور الدراما في مناخاته، دراما الحياة، ودراما الموت، كذلك حدة الصراع بين الوجود والعدم لديه. وهذا ما نسمعه ليس في الأشكال فقط، ولكن في موسيقى الألوان وإيقاعاتها. حين يستخدمها الفنان استخداماً شفيفاً ورهيفاً وكثيفاً لطيفاً أيضاً. وعلى استظهار نورانية هذه الألوان، حتى لو كانت دائماً داخلية لها معادلاتها الموضوعية، وشبهاتها المرئية المحسوسة. إلا أن أثيرها يتبخر لديه من شرفات ونوافذ الروح، ومن أبوابها أيضاً، في الأحوال والمقامات. والمقابسات التي يلتمسها في سريرته، ويتساورها، ويتسارر معها، وكأنه يقتطفها ويتحاصدها من أعماقه المترقرقة المتماوجة كالغابة بالاخضرار والازرقاق. حتى أن ريشته في تقاسيمها تتعازف نغمات هذه الألوان ونقراتها وعربها الموسيقية. حتى يجود هذه الألوان، ويتطاربها، ويتناغم فيها، بكثير من الأسرار والسحر والهواء اللافح الدفيء!

المرسم الجديد لنزار، تجربة فنية جديدة. وقد أثرت معه معالم هذه التجربة بكثير من الإشكاليات والالتباسات. حيث قال إنه في مرحلة عبور وتحولات فنية، وهو يختبر أدواته وأحاسيسه ورؤياه، ورؤيته الجديدة للعالم، رؤيته البيضاء، الأكثر بياضاً والأقل، رؤيته الذهبية، الأكثر نورانية والأقل، والتي تنطوي على عوالمه القديمة، وتنبعث من مرحلة حياته في الرماد، كما تثير الكثير من الأسئلة في هذا المنعطف الذي يذهب فيه إلى برزخ جديد، وكأنه في المطهر بين الجنة والجحيم، لكنه لا يرسم الكوميديا البشرية لبلزاك، أو الكوميديا الإلهية لدانتي، بل يرسم دراما الإنسان العاصفة الآن، إنه في دراما حروب طروادة، ومسرحيات شكسبير وسعد الله ونوس في طقوس الإشارات والتحولات..

ـ مرسم الفنان نزار صابور اللاذقية.
ـ لوحات جديدة بالأبيض ومواد مختلفة.
ـ 20/8/2006.


زهير غانم