فضاء نذير نبعة

«كلما تعمق المرء في التغلغل في كيان الطبيعة، ازداد اكتمال التجربة التي يستطيع أن يبدعها».
هودلر

التجلي ولادة اللامتعين
لقد أصابني الانبهار، وأنا أشاهد أبهة الطبيعة البدائية في تجليات الفنان نذير نبعة، ضمن معرضه الأحدث، والذي افتتح قبل أيام في صالة أتاسي بدمشق، ربما الانبهار كلمة رثائية للشعور، فاللوحة بتأثيراتها العاطفية التي يكونها التوزيع اللوني والتداخل الكائن بين الشكل والفراغ المحيط به، يؤدي إلى ما يسمى بحالة «الاندماج العاطفي» التي تجرد المتلقي من ملكته النقدية والتحليلية. لذلك سأتناول تجربة «تجليات» للفنان الكبير نذير نبعة بدراسة نقدية فنية تمكننا من تقريب العلاقة أو الفهم لهذه المواضيع المشرعة على احتمالاتها اللانهائية، وليست الغائبة.

لكي نبدأ بدراسة معرض «تجليات»، يتوجب علينا أن نضع في الحسبان، بأن «تجليات» ليست عرضاً لمجموعة لوحات تقدم مشهداً طبيعياً ينتهي عند الحواف بالمعنى التقليدي للصورة التشكيلية. إذ الهدف هنا ليس تقديم معنى معين أو سرد لعلاقة مختلفة مع الطبيعة، بل لإيصال المتلقي إلى إحساس «استثيكي» جديد يمنحه القدرة على توسيع مقدرته التخيلية أو تحفيز مخيلته التصويرية، للإمساك بتلك الأشكال الكامنة في العمق الداخلي للطبيعة الثانية، التي تمثل اللوحة نموذجها البلاستيكي. فالفن بتعبير سيزان: «هو خلق نسق على غرار الطبيعة». وهذا النسق الآخر من الطبيعة التي جسدها الفنان نبعة في أعماله الجديدة، ليست من قبيل المحاكاة لتلك الصخور القديمة المتموضعة كأشكال تختزل السيرة الذاتية للعوالم المتلاشية في جبال اللاذقية، والتي كانت ملاذاً رحباً لريشته وألوانه، بل هو البحث عن روعة الفن في مصدره البدائي (أي الطبيعة) في أي مكان يختزن جمالياته. إن عدم تعين موضوع محدد الأبعاد الشكلية في لوحات المعرض، لا يعني قطعاً اللاموضوع، أو نفياً مطلقاً للموضوع، أي تقديم تجريدات لا تعبر عن شي معين، ولا تعبر عن نفسها كأشياء متموضعة بعفوية اللون والشكل.

لأننا بهذه الرؤية سنكون قد حكمنا على معرض التجليات بالفشل، لأن الوظيفة الفنية كإمكانية ستكون مستحيلة. إن ما يمكننا من قراءة لوحات المعرض، هو هذا اللاتعيين للموضوع، فالأشكال موجودة بكثرة متداخلة، مبعثرة. وهذا لا يعني تبذيراً مفرطاً في الشكل أو تفكيكاً للمشهد، لأن التوزيع اللوني لكل لوحة، وهي المشكلة من درجات اللون وجلائه وظلاله والمسحات البيضاء وعمليات التلطيف اللونية، كلها تتآزر مع التنسيقات الخفية بين الخطوط وتقاطعاتها، وبين البروز الحجري وتقهقره كأخدود صغير أو كفجوة...الخ. وهي تعبر عن عفوية الأداء الفني، أي الصدق في العمل الفني. كل هذه الأمور تتآلف وتخلق، مع استجابة المتلقي وسياقه المعرفي والجمالي الخاص به، شكلاً دالاً مكوناً للعالم الذي يشيده المتلقي على نحو فردي وفق معياره الجمالي، وهكذا تتحول اللوحة إلى نافذة، نافذة المتلقي لمواجهة عالمه الذي تمكنه اللوحة من رؤيته عبر مجموعة من الخطوط والتموضعات الشكلية واللونية، هكذا أراد الفنان نذير نبعة لمتلقيه أن يكون حراً في الرؤية، ليس في إقصائه للشكل/الموضوع، بل بعرضه لممكنات الشكل. فالتجلي هو الظهور، واللوحة هي النافذة لرؤية هذا الظهور الخفي للموضوع، الذي يبقى كإمكان يولد كل لحظة، تواجهه عين ممعنة بعمق ـ مع الأخذ في الاعتبار الاختلافات بين مواقع الرؤية ـ وقادرة على خلق تنسيقات ممكنة بين الصخور والتخثرات والأشكال غير المنمذجة، حتى يستقر الشكل الذي يبقى ممزوجاً ومهدماً قبل الرؤية، وعندئذ يصبح الشكل محدداً ومركزياً ومنفصلاً عن الأشكال الأخرى التي تشوش النظام في اللوحة.

الموضوع هنا مختبئ في القسمات اللامحدودة للإيحاءات الحيوانية والإنسانية في المملكة النباتية الحجرية، والمتلقي هو الذي يخلق لها حضورها الذي ينبض بالحياة، ذاك الحضور الموجود مسبقاً كإمكان. إن تجليات نذير نبعة، هي تجربة لتقديم علاقة جديدة مع المتلقي؛ المتلقي الفعال غير المندمج عاطفياً في اللوحة. حيث تخلق مواجهة مع اللوحة، تختلف باختلاف المتلقي، الذي يساهم عبر آلياته المعرفية والجمالية في عملية التجلي الشكلي للموضوع غير الثابت، أي أنه يتوصل عبر الرؤية الممعنة إلى الإمساك بإحدى ممكنات اللوحة؛ إحدى العوالم المنبثقة من العمق الداخلي للقسمات الحجرية.

مزاج الظل والنور
أيمكننا التحدث عن مزاج عام في لوحة غير محددة الشكل/الموضوع؟ فكل شيء في اللوحة هام، الخطوط هامة، الحادة منها والطويلة والقصيرة والمنكسرة ...الخ. وكذلك مظهر الشكل العام، أكان منكسراً أو مدبباً او منفوخاً ...الخ، وترتيب الأشكال كما يقال «ماتييس» هام، إذ أن هذا يحدد شكل الفراغ. يمكننا الإجابة على السؤال الآنف بنعم. إذ في لوحات الفنان نبعة، تمكننا الخطوط والهندسة اللونية للوحة وكذلك مظهر الأشكال الخارجي ـ لا ترتيبها طبعاً ـ من التحدث عن مزاج عام للوحة، وهذا المزاج بدوره سيمكننا من البحث في التقنية اللونية المستخدمة في بناء اللوحة.

باستطاعتنا القول أن المزاج العام للمعرض اقتسمه مزاجان متضادان. هما، المزاج الثقيل الكئيب والمزاج التفاؤلي الذي يغمره النور. وإذا اقتضى الأمر تصنيفاً للمعرض حسب هذه الأمزجة، فإن المزاج الأول سيكون مدرجاً في اللوحات المرقمة حسب ترتيبها في العرض كالتالي /5-7-9-12/ إذ إن مظهر الأشكال لهذه اللوحات ـ اللامحدودة وغير المرتبة ـ أتت نتيجة البروز والتقهقر للمادة، معبرة عن حالة القلق والاستثارة الغامضة، فالمظهر المنكسر للبروز الحجري والمدبب، وحوافها الفظة والحادة أحياناً، ساهمت في إعطاء المظهر عشوائيته ـ وبالتالي عدم ثبات الموضوع ـ حيث أن العشوائية هي رفض الموقف العقلاني للتناسق الكامل بين الأجزاء والكل، للتناسبات الصافية الرياضية في الخطوط والمساحات.

أما الخطوط القصيرة والكثيرة، الخشنة، التي جاءت كفراغات تحتية أو كفجوات للمشهد الطبيعي، فقد عبرت عن التوتر والتقيد، مكونة المظهر المتكسر للمشهد، باستثناء الخطوط المستقيمة العمودية والأفقية المتقاطعة، التي كونت نظاماً معمارياً لمدن اختفت، وتركت لنا مخططها، حيث أتت الخطوط كمخطط أثري مغموس باللون، نستعيد بواسطتها ذكرى تلك المدينة أو المدن. كما في اللوحة رقم /6/ ورغم أن الخطوط هنا أفقية والمعرض في مجمل لوحاته يخلو من الخطوط المنحنية والمائلة، المتوترة، الهائجة، إلا أن الخطوط لم توح بالهدوء والاتزان المرجو منها.

وذلك عائد إلى مظهر هذه الخطوط المشوه، وإلى تموضعها في مواقع لونية قاتمة وكئيبة، الأمر الذي غير من دلالتها.

أما اللون الذي اقتسم المعرض في مجمله، اللون كمفتاح لدخول إلى سحر الواقع، فالتوزع اللوني للمعرض بين المزاج الثقيل الكئيب، وبين المزاج التفاؤلي، هو نتيجة لعلاقات اللونية أو للنغمية اللونية ـ بتعبير سيزان ـ ففي اللوحات المرقمة من /5-7-9-12/ أتت اللوحات بجلاءات لونية مشبعة وبدرجات متقاربة متصارعة فراغياً، وحادة بتطرف من حدة التباين. ولم تستطع الظلال اللونية من تخفيف حدة التباين، حتى في اللوحة رقم /7/ المعبرة عن المشهد الغسقي بألوانه الموزعة بين أحمر ماغينتا والبرتقالي والبني الأحمر، فالأفق لم تعبر عن الإشراق، بقدر ما عبرت عن التلاشي الضوئي وعن حالة من عدم اليقين، إذ منحت العتمة سلطة تعبيرية بلونها الأسود الذي يلاحظ كأخطبوط يتسلق الأذيال المتبقية من الضوء.

أما اللوحة رقم /12/ التي أتت ألوانها بمستويات لونية متقاربة من حيث الجلاء ودرجة الإشباع اللوني. حيث يظهر الأحمر البرتقالي والبرتقالي المائل للبني والبنفسجي بتواتره العنيف، العدائي، ممزوجة بلا حواف أو فواصل لونية. الأمر الذي جعل موضوع العمق كفراغ يحدد المساحات اللونية، والبناء اللوني عسيراً على الفهم، فأتت اللوحة كسطح مستو، يعكس مزيجاً لونياً غير مريح للعين نتيجة التباين الحاد بين البنفسجين شديد الذبذبة، والأحمر الكامد بلا شفافية، بحيث يظهر كأطول طيف موحى، مما أفقد اللوحة تناغمها اللوني.

أما بالنسبة للمزاج الآخر التفاؤلي، فيتم استقراؤه أيضاً من العلاقات اللونية والشكلية. فاللوحات المرتبة من /1-4-6-8/، عبرت من خلال تقاطع الخطوط المستقيمة، العمودية والأفقية في زاوية قائمة، عن حالة من الاتزان والانجذاب الأرضي، موحية بهندسة معمارية متماسكة مشرقة تؤكد اليقين، وذلك من خلال الرجحان في درجات الألوان البيضاء والرمادية بدلاً من الأسود، وكذلك من خلال انتشار الضوء انتشاراً عاماً، مساعداً على صفاء النظرة.

إن معرض تجليات، هو في الدرجة الأولى، رفض لتلك الأشكال الاتفاقية القائمة بين اللوحة الصريحة في كشفها للمعنى، وبين المتلقي. إنه دعوة في سبيل المشاركة الفعالة للبحث عن الحقيقة فيما وراء الظاهر. ولكي أبدد الشبهة عن الحقيقة؛ سأقتبس مقطعاً من قصة «جماعة المحرشفات» للكاتب الإيطالي إيتالي كالفينو، إذ يقول: «يركد الضوء والظلمة في مزيج ساكن للنهارات والليالي؛ أيكون ذلك شعوراً واحداً ينحني خارج الحد الإنساني؟ وراء زجاج كل قفص ـ كل لوحة ـ ثمة عالم لما قبل وجود الإنسان أو ما بعده، يثبت أن عالم الإنسان ليس أبدياً ولا وحيداً».