أبو الطيب المتنبي
تنويه: قد يعتقد الكثير أن محاولة إدراج الشاعر أبي الطيب المتنبي، الأشهر، والأعظم، والأكثر جدليةً في تراث الأدب العربي ضمن الشعراء السوريين، هي محاولةٌ لاقتلاع أبي الطيب من انتمائه الجغرافي ـ وهو ابن الكوفة والعراق ـ ونسب فضل نبوغ أبي الطيب إلى بلاد الشام.
إلا أننا لا نرمي إلى أيٍّ من تلك المحاولات التي قد تتبادر في أذهان من تفتك بهم شجون الغيرة والاستئثار، لكننا نحاول أن نبين أثر بلاد الشام في شاعرنا العظيم، وهو من ترعرع فيها وتتلمذ على يد أساتذتها ونادم أمرائها، مع العلم أنه لم تكن هنالك حدود في تلك الحقبة الزمنية، فهو ابن الشام شعرياً، وابن الكوفة جغرافياً، وابن الإنسانية جمعاء أدباً وفكراً وحساسيةً، وبهذا يحق لأي أحد أن ينسب أبي الطيب إلى بلده إذا كان يؤمن بشاعريته وأدبه، وحسبنا أننا اجتهدنا، ولا نريد من ذلك إثارة أي حساسية أو مذهبية، أو أي جدال هو أصغر من قامة شاعرنا الكبير.
المتنبي
هو أبو الطيب أحمد بن الحسن الجعفي، أشهر شعراء زمانه. ولد سنة 303هـ/905 م في حارة بني كندة بالكوفة، ولكنه قضى أيام شبابه في الشام وتأدب فيها. ولقي الكثير من أكابر علماء الأدب منهم: الزجّاج، وابن سراج، وأبو الحسن الأخفش، وأبو بكر محمد بن دريد وأبو علي الفارسي وغيرهم، وتخرج عليهم فخرج نادرة الزمان في صناعة الشعر، ولم يكن في وقته من الشعراء من يدانيه في شعره ولا يجاريه في أدبه. ادعى النبوة في بادية السماوة وهي أرض بين الكوفة والشام، فبادر إليهم لؤلؤ أمير الإخشيد على حمص، فهزمه هو ومن معه وأمسكه في الأسر زمناً طويلاً.
ولعل المتنبي اقتنع في غيابة السجن برسالته الحقيقية وهي أن يكون شاعراً مطبوعاً، فلما رجع إلى الشام سنة 325هـ/937 م أخذ يمدح الأشراف هناك على طريقة أبو تمّام والبحتري ثم قدم سنة 337هـ/948 م إلى حلب فمدح سيف الدولة بقصائده الطنانة، التي اشتهر بها كل من سيف الدولة وشاعره، وخلد لهم ذكراً باقياً.
بيد أن مقام المتنبي لم يتجاوز التسع سنين في حلب، فقد فسد ما بينه وبين سيف الدولة. وخرج سنة 346هـ/957 م إلى مصر قاصداً كافور الإخشيدي، لكنه لم ينل منه ما رجاه، وكان كافور من أعداء سيف الدولة، وكان أبو الطيب قد رغبت نفسه بأن يتولى عملاً من أعمال مصر، فلمّا لم يبلغه هجا كافور وهرب منه إلى بغداد سنة 350هـ/961 م. وهناك أراد الوزير المهلبي أن يوليه عملاً في خدمته، لكن المتنبي أبى أن يمدح المهلبي، وعند إذن توجه المتنبي إلى فارس، فمدح عضد الدولة البويهي.
وفي طريق عودته إلى العراق عرض له فاتك ابن أبي جهل الأسدي في عدة من أصحابه، وكان مع المتنبي جماعة من أصحابه، فقاتلوهم، فقتل المتنبي وابنه محمد، وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية في موقع يقال له الصافية، وقيل جبال الصافية، في الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العقوال بجوار النهروان، وكان ذالك في شعبان 354هـ/آب 956 م.
واختلف العلماء والأدباء في نقد شعر المتنبي. فزعم أبو العلاء المعري أنه أشعر المحدثين، وابن الجني يمدحه ويسميه «شاعرنا».
ويقول التنوخي: أنه لطيف المعاني، لولا أنه أفسد كثيراً من معانيه بغلظة الألفاظ. وكان النحاة يعيبون كثيراً من عباراته لتعديه على اللغة العربية.
إلا أن الأكيد أن أحداً من الشعراء لم يصل إلى شهرة المتنبي واختلاف العلماء في شعره وأدبه، وما يزال المتنبي يحتفظ بمجده وشهرته الشعرية إلى يومنا هذا.
وقد ورد في كتاب يتيمة الدهر للثعالبي في باب «المتنبي ما له وما عليه»: «هو -وإن كان كوفي المولد- شامي المنشأ، وبها تخرج، ومنها خرج.
نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة المنسوب إليه، والمشهور به، إذ هو الذي جذب بضبعه، ورفع قدره، ونفق سعر شعره، وألقى عليه شعاع سعادته، حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر، وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده، والأيام تحفظه، كما قال وأحسن ما شاء:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي فسار به من لا يسير مشمراً | إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا وغنى به من لا يغني مغردا |
وكما قال:
ولي فيك ما لم يقل قائل وعندي لك الشرد السائرا إذا سرن من مقول مرة | وما لم يسر قمر حيث سارا ت لا يختصصن من الأرض دارا وثبن الجبال وخضن البحارا |
هذا من أحسن ما قيل في وصف الشعر السائر، وأبلغ منه قول علي بن الجهم حيث قال:
ولكن إحسان الخليفة جعفر فسار مسير الشمس في كل بلدة | دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر وهب هبوب الريح في البر والبحر |
فليس اليوم مجالس الدرس، أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس ولا أقلام كتاب الرسائل، أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحون المغنين والقوالين، أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين. وقد ألفت الكتب في تفسيره، وحل مشكله وعويصه، وكثرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه، وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه. وتفرقوا فرقاً في مدحه والقدح فيه والنضح عنه، والتعصب له وعليه. وذلك أول دليل دل على وفور فضله، وتقدم قدمه، وتفرده عن أهل زمانه، بملك رقاب القوافي، ورق المعاني، فالكامل من عدت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته "وما
زالت الأملاك تهجي وتمدح".
وأنا مورد في هذا الباب ذكر محاسنه ومقابحه، وما يرتضى وما يستهجن من مذاهبه في الشعر وطرائقه، وتفصيل الكلام في نقد شعره، والتنبيه على عيونه وعيوبه، والإشارة إلى غرره وعرره، وترتيب المختار من قلائده وبدائعه، بعد الأخذ بطرف من طرق أخباره»
مختارات من شعره:
أفيقا خُمارُ الهمِّ نغّصَني الخَمرا تَسُرُّ خليلَيَّ المدامَةُ والذي لبستُ صروفَ الدهرَ أخشَنَ ملبَسٍ وفي كُلِّ لحظٍ لي ومَسمَعِ نغمَةٍ سدِكتُ بصَرفِ الدهرِ طفلاً ويافِعاً أريدُ من الأيام ما لا يريدُهُ وأسألُها ما أستحقُّ قضاءَهُ ولي كبدٌ من رأيِ همِّتِها النوى صحِبتُ ملوكَ الأرضِ مغتبِطاً بهم ولمّا رأيتُ العبدَ للحُرِّ مالِكاً فإن بلَغَت نفسي المُنى فبِعَزمِها | وسكري من الأيامِ جنّبني السُكرا بقَلبيَ يَأبى أن أُسَرَّ كَما سُرّا فعَرَّقنَني ناباً ومزَّقنني ظُفرا يُلاحظُني شَزراً ويوسِعني هُجرا فأفنَيتُهُ عزماً ولم يُفنني صبرا سوايَ ولا يجري بخاطرهِ فكرا وما أنا ممّن رام حاجَتَهُ قسرا فتُركِبُني من عزمِها المركبَ الوعرا وفارقتُهم ملآنَ من شنفٍ صدرا أبيتُ إباء الحُرِّ مسترزقاً حُرّا وإلا فقد أبلَغتُ في حرصِها عُذرا |
وقال أيضاَ:
لِهَوَى النُفُوسِ سَرِيرةٌ لا تُعلَمٌ يا أُختً مُعتنقِ الفَوارِسِ في الوَغَى راعَتْكِ رائعةُ البَياضِ بِمَفرقي لَو كانَ يمكننُي سَفَرتُ عَنِ الصبا ولَقَد رَأَيتُ الحادثاتِ فلا أَرَى والهّمُ يَخًترمُ الجَسيِمَ نحافةً ذُو العَقلِ يَشقىَ بالنَعيمِ بِعقلهِ والناسُ قد نَبَذُوا الحفاظَ فمُطلَقٌ لا يخدعنَّكَ من عَدوّ دمعهُ لا يَسلَمُ الشَرفُ الرّفيعُ من الأَذَى يُؤذي القليلُ من اللِئامِ بِطِبعهِ والظُلمُ من شيَمِ النُفوسِ فإِن تَجد ومِنَ البليّةِ عَذْلُ مَنْ لا يرعَوِي | عَرَضاً نَظَرتً وخِلتُ أَنّي أَسلَمُ لَأَخُوكِ ثَمَّ أَرقُ مِنكِ وأَرحمُ وَلَوَ أَنّها الأُولَى لَراعَ الأَسحَمُ فالشَيبُ من قَبلِ الأوانِ تَلَثّمُ يققاً يُميتُ ولا سواداً يعصمُ ويُشيبُ ناصِيةَ الصبيَِ ويُهرِمُ وأخُو الجَهالةِ بالشقاوةِ يَنعمُ يَنسَى الَّذي يُولَى وعافٍ يَندَمُ وارحَمْ شَبابَكَ من عَدُوِّ تَرحَمُ حتَّى يُراقَ على جَوانبهِ الدمُ من لا يَقلُّ كما يَقلُّ ويلؤُمُ ذا عفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظلِمَ عن جَهلِهِ وَخْطِابُ مَن لا يَفهَمُ |
المفردات:
عرضاً : فجأةً ـ راعتك : أخافتك ـ الأسحم : الأسود ـ يققاً: البياض ـ يخترم: يخترق ـ يرعوي: يكف ويقلع.
المراجع:
- العزف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، تأليف: الشيخ ناصيف اليازجي.
- تاريخ الأدب العربي، تأليف: كارل بروكلمان، ترجمة: الدكتور عبد الحليم النجار.