العيلاميون

إذا نظر القارئ إلى مصور لبلاد إيران ومر بإصبعه على نهر دجلة مبتدئاً من الخليج العربي حتى يصل إلى العمارة، ثم اتجه به شرقاً مخترقاً حدود العراق إلى مدينة شوشان الحديثة، إذا فعل هذا فقد حدد لنفسه موقع مدينة السوس القديمة ـ التي كانت فيما مضى مركز إقليم يسميه القدماء بلاد عيلام ـ أي الأرض العالية. في هذا الصقع الضيق الذي تحميه من غربه المناقع ومن شرقه الجبال الحافة بهضبة إيران العظيمة، أنشأ شعب من الشعوب لا نعرف أصله ولا الجنس الذي ينتمي إليه إحدى المدنيات الأولى المعروفة في تاريخ العالم. وقد وجد علماء الآثار الفرنسيون في هذا الإقليم منذ جيل مضى آثاراً بشرية يرجع عهدها إلى عشرين ألف عام، كما وجدوا شواهد تدل على قيام ثقافة راقية يرجع عهدها إلى عام 4500ق.م.

ويبدو أن أهل عيلام كانوا في ذلك الوقت قد خرجوا تواً من الحياة البدوية، حياة صيد الحيوان والسمك، ولكنهم كانت لهم وقتئذ أسلحة وأدوات من النحاس، وكانوا يزرعون الحبوب ويؤنسون الحيوان، وكانت لهم كتابة مقدسة ووثائق تجارية، ومزايا وحلى، وتجارة تمتد من مصر إلى الهند. ونجد بين أدوات الظران المسواة التي ترجع بنا إلى العصر الحجري أو صور جميلة تمثل الحيوان والنبات، نعد بعضها من أجمل ما صنعه الإنسان في عهود التاريخ كله. ولسنا نجد في تلك البلاد أقدم ما عرف من عجلات الخزاف وحسب بل نجد فيها أيضاً أقدم ما عرف من عجلات المركبات، ذلك أنا لا نعثر مرة أخرى على هذه المركبة التي كان لها شأن متواضع، ولكنه شأن حيوي في نقل المدنية من مكان إلى مكان، إلا بعد هذا الوقت في بلاد بابل، ثم بعد ذلك أيضاً في مصر. ثم انتقل العيلاميون من هذه البدايات المعقدة إلى حياة السلطان والغزو ذات الأعباء الثقال، فامتلكوا سومر وبابل، ثم دارت عليهم الدائرة فاستولت عليهم هاتان الدولتان كلتاهما بعد الأخرى. وعاشت مدينة السوس ستة آلاف من السنين، شهدت في خلالها عظمة إمبراطوريات سومر، وبابل، ومصر، وآشور، وفارس، واليونان، وروما، وظلت، باسم شوشان، مدينة مزدهرة حتى القرن الرابع عشر الميلادي. ومرت بها في خلال تاريخها الطويل فترات مختلفة نمت فيها ثروتها نمواً عظيماً. وحسبنا شاهداً على هذا وصف المؤرخين لما عثر عليه فيها آشور بانيبال حين استولى عليها ونهبها في عام 646ق.م من ذهب وفضة وحجارة كريمة، وجواهر ملكية، وثياب ثمينة، وأثاث فخم، ومركبات ساقها الفاتحون وراءهم إلى نينوى، ذكر المؤرخون هذه المغانم كلها ولم يحاولوا الانتقاص من شأنها أو الاستخفاف بها، وهكذا بدأ التاريخ دورته المحزنة فبدلها في وقت قصير من فنها المزدهر حرباً وخراباُ.


قصة الحضارة
المجلد الأول ج1 وج2، ول وايريل دورانت، دار الجيل بيروت ـ تونس، 1988

مواضيع ذات صلة: