سورية منذ الفتح وحتى بداية الحكم العثماني

سورية اسم غلب إطلاقه على القطر الشامي منذ عهود قديمة، قال البكري (ت 487هـ) «سورية بضم أوله وكسر الراء المهملة وتخفيف للياء اسم للشام»، وفي فتوح البلدان للبلاذري أنَّ هرقل لما بلغه خبر أهل اليرموك وإيقاع المسلمين بجنده هرب من أنطاكية إلى قسطنطينية، فلما جاوز الدرب قال: «عليك يا سورية السلام» يعني أرض الشام.

والشام والشآم هو الاسم الذي أطلقه الجغرافيون العرب على سورية التي يحدها بحر الروم «المتوسط» من الغرب، والبادية الممتدة من أيلة «العقبةۛ» إلى الفرات، ثم من الفرات إلى حد الروم «جبال طوروس»، وجنوبيها مصر وآخر حدودها مما يلي مصر رفح، أي أن سورية كانت تضم الرقعة التي تشغلها اليوم الجمهورية العربية السورية ولبنان، والأردن وفلسطين، وتلك كانت بلاد الشام على مدى تاريخ طويل، ولم يتم تقسيمها سياسياً إلى دول أربع إلا بفعل الاستعمار في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

حينما بدأت الفتوحات الإسلامية، كانت سورية «بلاد الشام» قد عادت للسيطرة البيزنطية، بعد أن استولى عليها الفرس مدة تزيد على العقد من السنين، واستطاع هرقل أن يستعيد الصليب الأعظم من الفرس، وأن يعيده إلى بيت المقدس، وقد ورد ذكر الانتصار الذي سوف يحققه الروم في القرآن الكريم في سورة الروم *غُلِبَت الروم في أدنى الأرض وهم بعد غَلَبِهم سيَغلِبون في بضعِ سِنينَ للهِ الأمرُ منْ قَبلُ ومِنْ بَعدُ ويومئذِ يَفرَحُ المؤمِنُون* لم يهنأ الروم البيزنطيون طويلاً بانتصارهم، فقد استطاعت الجيوش العربية أن تحرر سورية من سيطرة البيزنطيين ما بين سنة 13هـ و19هـ/634 و640م، ذلك أن هزيمة اليرموك وفتح دمشق وانتصار العرب في فِحْل «مدينة قديمة في المملكة الأردنية» كان بمثابة تسليم زمام سورية إلى المسلمين، لأنه مَكَّن لهم أن يسيطروا على هذه المنطقة المتوسطة من سورية التي تحمي ظهورهم بالبادية، وأن يتوجهوا بعدها إلى الشمال وإلى الجنوب، أما في الجنوب فانتهى بهم الأمر إلى تحرير بيت المقدس «القدس» سنة 17هـ/638م، التي استسلمت وفتحت أبوابها للخليفة عمر بن الخطاب، وإلى تحرير قيسارية المدينة الساحلية التي أتاح لها مركزها الساحلي أن تتلقى إمداد الروم بحراً، ولكنها استسلمت أخيراً سنة 19هـ/640م أما في الشمال فقد توالت الفتوح بعد حمص، واستطاعت الجيوش العربية أن تدخل حماة وشيزر وقنسرين وحلب وأن تدخل بعد حلب أنطاكية حصن الروم الحصين.

عمد الخليفة عمر بن الخطاب إلى تقسيم الشام إلى أجناد أربعة وهي جند حمص وجند دمشق، وجيد الأردن، وجند فلسطين، وهذه الأجناد أقاليم استقرَّت فيها فرق من الجيش لحمايتها وقبض أعطياتهم منها، ولقد أوجبت الضرورات العسكرية تقسيم الشام إلى هذه الأجناد، لأن الساحل السوري طويل، وسورية كانت لا تزال مهددة براً وبحراً من قبل البيزنطيين، فكان لابد من إيجاد مراكز عسكرية متعددة لكي يتمكن كل جند من الدفاع عن المدن الساحلية التابعة له، وكانت طرابلس وجبيل وبيروت وصيدا تابعة لجند دمشق، واللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس تابعة لجند حمص، وتبعت صور وعكا جند الأردن، وقيسارية ويافا وعسقلان وغزة جند فلسطين وعمد معاوية بن أبي سفيان عندما تولى الخلافة 4160هـ إلى جعل قنسرين جنداً منفصلاً عن حمص، وأضيفت حلب إلى جند قنسرين بعد أن كانت مضافة إلى جند حمص.

كانت مراكز هذه الأجناد كلها مدناً داخلية، قنسرين، حمص، دمشق، طبرية، اللد، وبقيت اللد قصبة جند فلسطين، حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك الذي ولى أخاه سليمان بن عبد الملك جند فلسطين، فابتنى مدينة الرملة واختط مسجدها فصارت القصبة، ونقل إليها بالناس من اللد وأمرهم بالبنيان بالرملة.

أصبحت سورية بعد الفتح ولاية تابعة لمركز الخلافة في المدينة المنورة، ولم يجمع عمر بن الخطاب أمر سورية كلها وإمرة الأمراء في الحرب والسلم إلا لأبي عبيدة بن الجراح لمكانته ولثقته الكبيرة به، فلما توفي أبو عبيدة سنة 18هـ وزع عمر بن الخطاب أجناد الشام على عدد من الولاة، ولكن الخليفة عثمان بن عفان جمع أجناد الشام كلها والجزيرة وثغورهما لمعاوية بن أبي سفيان الذي كان في خلافة عمر بن الخطاب والياً على جندي دمشق والأردن، ومنحه صلاحيات واسعة فأصبح والياً على الصلاة والحرب والخراج، إن هذه الصلاحيات هي التي مكنت معاوية في تلك المرحلة من تثبيت سلطانه، وهذا ما ساعده بعد مقتل الخليفة عثمان أن يقف في وجه الخليفة علي بن أبي طالب ويرفض مبايعته له، حتى يقتصَّ من قتلة عثمان.
بمقتل الخليفة علي بن أبي طالب وتنازُل الحسن بن علي، انتقلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان عام 41هـ/661م، الذي تعارف المؤرخون على تسميته بعام الجماعة، لاتفاق كلمة المسلمين بعد طول نزاع، وأصبحت سورية الولاية المركزية واتخذ معاوية دمشق عاصمة للدولة الإسلامية، بسبب موقعها المتوسط وتقاليدها الحضارية، وبقيت دمشق العاصمة الرسمية للدولة حتى خلافة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية الذي نقل سنة 127هـ بيوت الأموال والخزائن إلى حرّان في الجزيرة.

كانت سورية الولاية الوحيدة التي خضعت للخلفاء الأمويين مباشرة، وكان يساعد الخليفة في إدارتها عدد من الولاة، وقد حاول معاوية، ومن بعده يزيد، أن يعهدا بإدارة هذه الأجناد إلى زعماء القبائل، حسبما توافر لهم من استقرار وكثرة، فكانت قنسرين والجزيرة بأيدي عمال من عرب الشمال أو القيسية، بينما كانت حمص والأردن وفلسطين بأيدي عمال من عرب الجنوب أو اليمانية، إلا أن معركة مرج راهط سنة 64هـ/683م وما نجم عن ذلك من احتدام العصبيات دفعت عبد الملك بن مروان 5686هـ رغبة منه في إبقاء الوحدة الداخلية لما لها من أهمية كبرى في تثبيت دعائم الحكم إلى أن يوسِّد إمارة الأجناد إلى أبنائه وإخوته وأفراد من الفرع المرواني، واتبع خلفاء بني أمية من بعده هذا النهج، ماعدا عمر بن عبد العزيز الذي اتبع أسلوب معاوية في تعيين عمال، وفق الأكثرية القبلية في المنطقة.

تمتعت الشام بازدهار اقتصادي في خلافة بني أمية، فقد استفادت من فائض الأموال التي كانت ترسل إلى بيوت أموالها ومن أخماس الغنائم التي كان يرسلها القادة من الشرق والغرب، كما أن زوال الحواجز الجمركية القديمة بين العراق وسورية ساعد على ازدهار التجارة مع الشرق، وانعكس هذا الازدهار ولاسيما في الفترة المروانية على النشاط العمراني؛ فقد اهتم الأمويون ببناء المساجد لأنها مظهر من مظاهر سيادة الدين الإسلامي واستقرار المسلمين في الأرض وغلبتهم عليها، وقد بنى معاوية، منذ أن كان والياً من قبّل عثمان، المساجد في الساحل وأخذ يكبر ما ابتني قبل خلافته، وبنى عبد الملك قبة الصخرة وأتم الوليد بناء المسجد الأقصى في القدس، ولكن الأثر الرئيس الذي تقوم عليه شهرة الوليد هو مسجد بني أمية الكبير الذي شيده في دمشق والذي يعرف بالجامع الأموي، والذي كان من أهم المعاهد العلمية لتدريس القرآن والحديث والفقه، وبنى سليمان في خلافته مسجد حلب الكبير الذي كان يضاهي كما يقول ابن الشخنة مسجد دمشق من حيث روعة زخارفه، لأن سليمان جهد أن يكون بناء مسجد حلب معادلاً لعمل أخيه في مسجد دمشق.

كذلك شيَّد الأمويون القصور الكثيرة التي انتشرت في سورية انتشاراً واسعاً، ولم تكن مقتصرة على منطقة بعينها، بل امتدت من جنوب الأردن إلى الجزيرة الفراتية شمالاً، ومن جوف البادية شرقاً حتى ساحل البحر المتوسط غرباً، واستنتج سوفاجيه Sauvajet «الجغرافي الفرنسي» بعد مسح أثري للمواقع الأموية في بوادي حماة وتدمر ومآب وبلقاء وشمال سورية، أن جميع تلك المنشآت الأموية لها طابع ثابت محدد، هو قصر تلازمه مجموعة أبنية توجد فيها آثار استغلال زراعي، وما أن ظهرت دراسة سوفاجيه سنة 1967من حتى تأثر بها غرابار Grabar الذي ذكر في دراسته التي قدمها لمؤتمر بلاد الشام سنة 1974م، أن هناك أكثر من مئتي مستوطنة أو مشروع زراعي يرجع تاريخها إلى القرن الأول والثاني الهجريين، وذكر أن الهدف الأول من المنشآت الأموية، يُرى في مثال قصر الحير الشرقي وهو عبارة عن استصلاح زراعي.

هذه الإشارات سواء في مصادرنا أو ما توصل إليه علماء التاريخ والآثار، كلها تشير إلى اهتمام الأمويين بالزراعة، وليس أدل على ذلك من استياء الخليفة هارون الرشيد من واليه على دمشق الحسين بن عمار واتهامه بأنه ولاَّه دمشق «وهي جَنَةٌ بها غدرٌ، تتكفَّأ أمواجها على رياض كالدراري، فإذا به يجعلها أجرد من الصخر وأوحش من الفقر.

في سنة 132هـ انتقلت الخلافة إلى العباسيين بعد القضاء على دولة بني أمية، واتخذ العباسيون العراق مركزاً لهم وبغداد عاصمة لدولتهم، وخسرت سورية مكانتها كمركز لدولة مترامية الأطراف، وأصبحت مجرد ولاية تابعة لمركز السلطة في بغداد، ولكن الوضع الجغرافي والاستراتيجي والاجتماعي لسورية دفع خلفاء بني العباس الأوائل إلى توجيه اهتمام خاص لهذا الإقليم، فقد خرج البيزنطيون من صراعهم الاقتصادي الحربي مع الأمويين ظافرين، وبقيت بيزنطة لمدة نصف قرن بعد سنة 135هـ/752م القوة الوحيدة التي تملك أسطولاً في البحر المتوسط، وكان الخليفة المنصور يدرك الخطر الذي يحدق بدولته نتيجة عدم امتلاك العباسيين لأسطول قوي في البحر المتوسط، لذلك تتبع حصون الساحل ومدنه فعمَّرها وحصنها، وبنى ما احتاج إلى البناء منها، ثم لما استخلف المهدي أتمّ ما بقي من المدن والحصون وزاد في شحنها بالجند.
أما العامل الثاني الذي دفع خلفاء بني العباس إلى الاهتمام بسورية، فهو أنها كانت مسرحاً للقبائل العربية التي كان لها دورها السياسي والإداري والعسكري في خلافة بني أمية، وقد تجلى هذا الاهتمام بتعيين ولاة من آل العباس على أجناد الشام حتى عهد الخليفة المأمون وبرز من هؤلاء الولاة صالح بن علي العباسي، الذي ولاه الخليفة المنصور سورية والثغور، وولى ابنه عبد الله بن صالح حمص، والفضل بن صالح دمشق، وقد وليها تسع سنين وهو الذي عمل الأبواب للمسجد الأموي والقبة في الصحن التي تعرف بقية بيت المال وجمع المهدى لإبراهيم بن صالح بن علي جندي دمشق والأردن، وبقي والياً عليها حتى خلافة هارون الرشيد سنة 170هـ. وإذا كان هناك اختلاف في أسماء ولاة دمشق عند اندلاع العصبية أو فتنة أبي الهيذام سنة 176هـ إلا أن هناك اتفاقاً على أنهم من آل العباس، فلما طالت الفتنة أرسل الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي إلى سورية ومعه القواد والجند، فسكَّن الفتنة وأطفأ الثائرة، ويذكر الطبري وابن الأثير أ الرشيد أكثر المقام في الرقة لقلقه الناجم عن محبة أهل الشام لبني أمية وهياج العصبية.
وباستثناء ثورات الشام في فترة توطيد سلطان بني العباس، فالأمن كان مستتباً حتى هياج العصبية في خلافة الرشيد، ثم هاجت المنطقة بكاملها نتيجة الصراع بين الأمين والمأمون، فلما كانت خلافة المعتصم وبدأ الاعتماد على الأتراك، هذا العنصر الجديد الذي لم يكن قادراً على فهم الأسس المعنوية التي قامت عليها الدولة العباسية، ولم تكن له خبرة بالإدارة، ازدادت الفتن لرفض العرب لولاتهم من الأتراك، وبقي ولاة الأجناد من الأتراك عندما سيطر أحمد بن طولون على سورية سنة 264هـ/877م وجمع بين حكم سورية ومصر، واستمر حكم الطولونيين حتى عام 293هـ/905م، ثم عادت بعدها سورية للنفوذ العباسي، ولكن سورية لم تلبث أن خضعت للإخشيديين الذين بسطوا نفوذهم عليها سنة 330هـ/941م فلما دخل سيف الدولة حلب سنة 333هـ/968م قامت بينه وبين الإخشيد وقائده كافور نزاعات وصدامات حتى تم الاتفاق بينهما على أن تكون سورية الشمالية من نصيب سيف الدولة، بما في ذلك حمص وحماة والمعرة وأنطاكية، وسورية الجنوبية من نصيب الإخشيديين، الذين انتهى أمرهم في سورية بعد قضاء الفاطميين عليهم في مصر سنة 358هـ/968م، كما أنهى الفاطميون النفوذ الحمداني سنة 393هـ/1003م. وقد ازدهر الفكر والشعر والأدب في عهد سيف الدولة، كما قاوم سيف الدولة البيزنطيين وقام بالعديد من الغزوات على أراضيهم.

تسلم نواب الفاطميين حكم سورية حتى موت الحاكم بأمر الله سنة 411هـ، ثم بدأ نفوذهم ينحسر تدريجياً، ففي سنة 415هـ/1024م، نجح صالح بن مرداس أمير بني كلاب في السيطرة على حلب، ولم تقف مطامحه عند حدود حلب وشمالي سورية، بل انتزع بعض أجزاء الساحل السوري من الفاطميين وشارك في العمل على إخراج الفاطمييين منها، فذهب ضحية مطامحه حيث قتل سنة 419هـ/1029م في معركة الأقحوانة، ولكن مقتله لم يقضِ على وجود الدولة التي أقامها، والتي استمرت مع بعض الانقطاع حتى سنة 472هـ/1079م.

في هذه الأثناء كان السلاجقة قد وطدوا نفوذهم في العراق، وسقطت دمشق في أيديهم سنة 467هـ/1075م وخسر البيزنطيون أنطاكية سنة 477هـ/1093م، والتي كانوا قد استولوا عليها سنة 358هـ بعد وفاة سيف الدولة الحمداني، وانقسمت سورية إلى إمارتين سلجوقيتين إمارة دقاق بن تتش في دمشق وإمارة أخيه رضوان بن تتش في حلب، وقد مثلا جيلاً خاصاً من أجيال السلاجقة، فقد وقفا نفسيهما مع قواتهما للصراع الداخلي والحروب الأهلية، وفي طرابلس ظهرت إمارة بني عمَّار، وإلى الجنوب من طرابلس بقيت المدن الساحلية في أيدي الفاطميين، وفي وسط هذه الانقسامات والفوضى السياسية وصلت جيوش الفرنج الصليبيين إلى مشارف أنطاكية سنة 492هـ/1098م والتي كانت تهدف أول ما تهدف الوصول إلى القدس.

احتل الصليبيون أنطاكية في تموز 492هـ/1098م، وتوجهت فئة منهم بقيادة بلدوين من مرعش إلى الشرق واحتلت مدينة الرها، واتخذت منها قاعدة لأول إمارات الصليبيين الأربع ومن أنطاكية تابعت جموع الصليبيين زحفها جنوباً، بعد أن جعلوا من أنطاكية مركزاً لثاني إماراتهم، وبعد مرحلة حافلة بالحوادث وصلت هذه الجموع القدس، وتمكنوا من اجتياحها في تموز 1099م/493هـ، بعد حصار شديد عجزت فيه كل من دمشق والقاهرة وسواهما عن تقديم النجدة.

جعل الصليبيون من القدس مركزاً لثالث دولهم وأعلاها مرتبة، ثم أخذوا يوسعون أملاكهم فاستولوا سنة 502هـ/1109م على طرابلس.

لقد كانت الضربة التي حلت بعرب سورية إثر احتلال الصليبيين لأجزاء من بلادهم ضربة مروعة، لكنها لم تُعِد على الرغم من فظاعة وقائعها ونتائجها حكام سورية إلى وعيهم، حيث استمروا يتنازعون من أجل السلطان، واستغل الفرنجة هذه الفرصة فوسعوا أملاكهم وجرَّدوا مدينة حلب من جميع أراضيها الشمالية والغربية، ولم يبق لها بعد هذا إلا بعض أراضيها الجنوبية والشرقية.

استطاع المسلمون بزعامة قادة عسكريين من طراز نادر أن يتغلبوا على الصليبيين وأن يخرجوهم من سورية بعد نضال طويل وصراع عنيف، ومن أبرز هؤلاء القادة عماد الدين زنكي الذي تولى إمارة الموصل سنة 521هـ ثم حلب سنة 522هـ/1128م، وسَخَّر كل طاقات دولته للتحرير، فاسترد من الصليبيين معرة النعمان وكفر طاب والأثارب والمنطقة الشمالية والغربية لمملكة حلب، وفي سنة 539هـ/1146م احتل الرها بعد جهاد عاشته الأمة كلاً وفرداً، وقضى على أولى دول الفرنجة تأسيساً في المشرق، وسدَّ الثغرة التي كانت بين شمالي سورية والجزيرة.

وتابع نور الدين بعد وفاة والده 541هـ/1146م الجهاد ضد الفرنجة، وتابع ومحاولاته لتوحيد الديار وأهلها وبعث روح الجهاد فيها، ومكنت هذه الروح نور الدين سنة 549هـ/11054 من دخول دمشق بناءً على دعوة أهلها، فوحَّد لأول مرة منذ قرون شمالي سورية مع جنوبيها، واتخذ من مدينة دمشق مركزاً لأعماله. وفي سنة 559هـ/1164م استولى نور الدين على بعض أجزاء إمارة أنطاكية وأمير طرابلس وساقهم أسرى إلى حلب، وفي سنة 567هـ/1171من أعلن صلاح الدين وزير الخليفة العاضد، والذي كان نورد الدين قد أرسله لدعم الخليفة ضد الصليبيين، سقوط الخلافة الفاطمية وخطب للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله منابر القاهرة، وكان الخليفة العاضد مريضاً توفي دون أن يدرك ما حدث.

كان سقوط الخلافة الفاطمية حدثاً خطيراً في تاريخ العالم الإسلامي، فقد عادت وحدة الخلافة وأصبحت الخلافة العباسية الخلافة الوحيدة التي يدين لها المسلمون بالولاء، وتوحدت سورية ومصر تحت قيادة نور الدين زنكي.

كان نور الدين مولعاً بالعمران، وترك كثيراً من الآثار من المدارس والمشافي والرباطات، كما شجع المثقفين والعلماء، ففي دمشق ألف ابن القلانسي تاريخه وابن عساكر تاريخ دمشق في ثمانين مجلداً، كما أن أسامة بن منقذ من أمراء شيزر، ألف كتابه الاعتبار الذي يعد مصدراً هاماً لدراسة العلاقات التي كانت قائمة بين المسلمين والفرنجة.
توفي نور الدين سنة 569هـ/1174م وتولى ابنه الملك الصالح إسماعيل الحكم، وعمره إحدى عشرة سنة، ودخل الأمراء الزنكيون وكبار القادة في جيش نور الدين فوراً في تنافس على وصاية الصالح، علماً بأن الخطر الصليبي كان لا يزال جاثماً والإمدادات من الغرب لا تزال تتواصل، ولذلك أصبح لزاماً أن يتقدم أحد أمراء نور الدين الأقوياء ليملأ الفراغ ويوحد الكلمة ويجمع الصف، وكان صلاح الدين الأيوبي غداة وفاة نور الدين يملك قوة كبيرة من العدد والعدة، فهو أمير مصر الغنية وقائد لعدة فرق عسكرية، لذلك رأى من واجبه إعادة بناء الدولة وتوحيد الكلمة ومواصلة السياسة التي بدأها نور الدين، وقد استغرقت عملية التوحيد فترة زمنية امتدت من سنة 570هـ إلى سنة 582هـ، فلما نجح في تحقيق الوحدة بين مصر والشام والجزيرة وديار بكر والموصل، هزم الصليبيين هزيمة ساحقة في حطين سنة 583هـ/1187م تلاها استرداد طبرية وعكا وتبنين وصيدا وبيروت وعسقلان، ثم تحرير القدس في السنة نفسها، وبذلك قضى على المملكة اللاتينية الصليبية في القدس، ثم تابع الاستيلاء على مدن الساحل شمالي فلسطين فاستولى على جبلة وبانياس واللاذقية، ولكن صلاح الدين خسر عكا بعد نضال عنيف نتيجة لوصول الحملة الصليبية الثالثة التي استعادت بعض مدن الساحل، ولكنها فشلت في استعادة بيت المقدس.

توفي صلاح الدين بدمشق سنة 589هـ/1193م وانقسمت الشام في العهد الأيوبي إلى أربعة ممالك، هي مملكة حلب ودمشق وحمص وحماة، وشهدت سورية في العهد الأيوبي حركة ثقافية وأخرى عمرانية لا مثيل لها نتيجة لترسخ الوحدة وإلى الازدهار الاقتصادي، على الرغم من انهماك الدولة في محاربة الفرنج الصليبيين وتحرير الأراضي المحتلة.

تجلت هذه الحركة العمرانية توسيع المدن وتجديد أسوارها وتشييد القلاع وفي تزويد الطرقات العامة بالفنادق كمحطات للقوافل وامتلأت المدن بالمباني العامة كالمساجد والمدارس والخانقاهات (دور ضيافة ومنازل للصوفية) والأضرحة الفخمة ذات القباب، وما يزال كثير من هذه المباني باقية إلى اليوم وبعضه بحالة جيدة في المدن السورية الكبرى، وحدث تطور ملحوظ في فنون العمارة العسكرية، فقد فاقت الأبراج والأسوار بارتفاعها وحجمها الكبير وضخامة حجارتها التي يغلب عليها النوع البارز، وأحسن مثال على ذلك قلعة حلب وقلعة دمشق وقلعة بصرى، وهي قلاع لا تزال تحافظ على أصالتها.
أنهى الغزو المغولي حكم الأيوبيين في سورية منة 658هـ/1259م، بعد قضائهم على الخلافة العباسية واجتياحهم العراق سنة 656هـ/1257م ولكن المماليك الذين كانوا قد تولوا حكم مصر بعد وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب، ومقتل توران شاه سنة 648هـ/1250م، انتصروا في معركة عين جالوت 15 رمضان 658هـ/3 أيلول 1260م، بقيادة السلطان قطز على المغول وطردوهم من سورية، ومن ثمّ دخلت ضمن سلطان المماليك وأصبحت سورية ولاية تابعة لحكام المماليك في مصر، ومع أن المماليك استعانوا ببعض أمراء الأيوبيين في حكم حمص وحماة، فإنهم كانوا يحكمون المناطق باسم المماليك مقابل مبلغ سنوي من المال.

حظيت دمشق في عهد المماليك بمكان مرموق وغدت بمثابة العاصمة الثانية للدولة، يقيم فيها السلاطين بين حين وآخر يتخذونها مركزاً لعملياتهم العسكرية ضد الصليبيين والمغول، الأمر الذي حفظ لدمشق مركزها السياسي والحربي الذي كان لها في أيام نور الدين وصلاح الدين، وكانت نيابة دمشق في العصر المملوكي من أكبر نيابات الدولة وأهمها، وكانت توكل إلى واليها مهمة الإشراف على سائر ولايات سورية، كنيابة حلب ونيابة حماة ونيابة طرابلس ونيابة صفد، كما كان يكلف بأعمال عسكرية واسعة النطاق للقضاء على العصيان أو الوقوف في وجه عدو خارجي، وكان يطلق على والي نيابة دمشق اسم نائب السلطنة أو نائب الشام أو «كافل السلطنة الشريفة بالشام المحروس».

عاشت سورية في ظل السلطنة المملوكية فترة زمنية طويلة بلغت 264سنة، كان الحكم في الدور الأول منها للمماليك البحرية (الأتراك) وكان الحكم في الدور الثاني للمماليك الشراكسة أو الجراكسة.

إن ما ينعت به نظام الحكم في العهد المملوكي من السوء والفساد والفوضى لا ينطبق على العصر كله، فقد عرف القرن الأول من حكمهم سلاطين عظام جاهدوا في سبيل طرد الغزاة من صليبيين ومغول؛ ففي سنة 664هـ/1265م تمكن السلطان بيبرس من فتح قيسارية وعتليبت وأرسوف، وفي العام التالي فتح صفد وتبنين والرملة، وفي سنة 666هـ/1267م فتح أنطاكية وجاء سقوطها إيذاناً بانهيار البناء الصليبي في سورية، بحيث لم يبق للصليبيين سوى عكا وطرابلس، وسقطت طرابلس في عهد السلطان المنصور قلاوون سنة 688هـ/1289م، وانتهى الوجود الصليبي نهائياً في عهد السلطان الأشرف خليل، حيث استسلمت إمارة عكا سنة 690هـ/1291م، وعادت سورية من كيليكية شمالاً حتى غزة والحدود المصرية جنوباً لا يقطنها إلا أبناؤها، ولا يتمتع بهوائها وخيراتها إلا أهلها الأصليون.
كان من نتائج تحرير سورية نهائياً من الصليبيين ونجاح المماليك في صد حملة غازان المغولي سنة 698هـ/1298م أن نعمت سورية بالأمن والاستقرار فازدهرت النهضة التي وضعت بذورها في عهد الدولتين النورية والأيوبية، وارتقت الفنون والصنعات وشيدت الجوامع والمدارس والتُرب والحمامات والأسواق والقيساريات وغير ذلك من الأعمال العمرانية.

مع نهاية القرن الثامن الهجري كثرت حركات التمرد والمؤامرات بين أمراء المماليك، وارتفع إلى سدة السلطنة مماليك ممن ليس لهم مكانة أو هيبة وانعكست آثار الفوضى والعصيان والتنافس على المناصب بين الأمراء على أوضاع البلاد، واتُخذت دمشق في أكثر الأحيان معتصماً للعصاة والمتآمرين والطامعين في السلطنة، وألحقت هذه الأحداث بها الأذى والتأخر وعرضتها للسقوط فريسة للغزو والعدوان، فقد اجتاح تيمورلنك حلب وأخذ يهدد دمشق التي دخلها عام 803هـ/1401م فنهب خيراتها وأموالها وقتل أكثر رجالها وستبقى منهم كل صاحب مهنة أو فن ليأخذه إلى عاصمته سمرقند، ثم أشعل النار في المدينة.

عاد المماليك بعد رحيل تيمورلنك وعملوا على إزالة آثار الكارثة، وراح السلاطين يحثون النواب على الإعمار، وبت الحياة في مدن سورية شيئاً فشيئاً ولاحت تباشير الازدهار، ولكن العصر كله كان قد تغير ودب الفساد والوهن في أوصال الدولة المملوكية وكثرت المجاعات والأوبئة، وتفشت الفوضى، وكثرت تعديات البدو وشلت حياة المدن والقرى، ثم كانت نهاية المماليك على يد العثمانيين سنة 922هـ/1516م في معركة مرج دابق التي تشتت فيها الجيش المملوكي، وفتح الطريق أمام السلطان سليم العثماني ليضم سورية ومصر إلى سلطانه.

نجدة خماش

الموسوعة العربية

مواضيع ذات صلة: