الآداب القديمة في سورية

ما من حضارة في التاريخ البشري لم تنتج شكلاً من الأدب يعكس صورتها ويعبر عن معاناتها وتطلعاتها، وقد تعاقب على منطقة سورية الطبيعية منذ القديم عدد من الحضارات المحلية الأصيلة والغريبة الدخيلة، مما حوَّل المنطقة إلى بوتقة تلاق وتفاعل وتمازج مثمر، جعل منها بؤرة للإشعاع الفكري تارة، ووسيطاً فاعلاً بين الحضارات تارة أخرى. وعلى الرغم من بعد الشقة الزمنية مع الماضي الغابر، ساعد علم الآثار وبعثات التنقيب المتوزعة في أرجاء المنطقة كافة منذ أوائل القرن العشرين في الكشف عن كثير من تراث هذه الحضارات، بما في ذلك الفكر والأدب الديني والدنيوي.

أظهرت الحفريات في سبعينيات القرن العشرين في تل مرديخ بالقرب من مدينة إدلب أعداداً كبيرة من الرّقم الطينية، التي كشفت دراستها عن حضرة مملكة إبلا، التي تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، والتي اعتمدت على الإنتاج والتبادل التجاري مع الممالك المجاورة، وكانت أحد مراكز العلم والأدب المتطورة في ذلك الزمن. ومع أن القسم الأكبر من هذه الرقم مازال قيد الدراسة، فقد عثر الخبراء حتى اليوم على نسختين من ملحمة غلغامش، وعلى كثير من النصوص الأسطورية المرتبطة بآلهة إبلا وملوكها وأبطالها، بشكل يكشف عن طبيعة الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية في المملكة وجوارها، مدونة باللغة الإبلاوية التي تنتمي، حسب رأي الدارسين، إلى الأسرة السامية الشمالية، أي إلى الحضارة الكنعانية.

ومنذ عشرينيات القرن العشرين كشفت الحفريات في منطقة رأس شمرا شمالي اللاذقية عن حضارة مملكة أوغاريت الكنعانية التي تعود إلى القرن 14-13ق.م. وقد كشفت دراسة الرقم عن أول أبجدية في التاريخ مؤلفة من ثلاثين علامة كتابية، ودونت بها أعداد كبيرة من النصوص الدينية والحقوقية والتجارية، إلى جانب عدد لافت من الملاحم والأساطير والقصائد التي أثارت اهتماماً كبيراً لدى الباحثين، ولاسيما وأنها تثبت صحة المقاطع المذكورة عن أوغاريت في كتاب «فينيقيا» Phoinikika للكاتب الجبيلي فيلون (64-141م) Philon التي أحالها بدوره إلى سنخونياتن Sanchuniatin البيروتي الذي عاش قبل حرب طروادة (نحو 1200ق.م).

تعتمد جميع أشعار الأدب الأوغاريتي على بنية موحدة واضحة، بحين يتألف البيت من شطرين، وكل شطر من ثلاث تفعيلات، ويخضع اختلاف الوزن إلى عدد حركات الرفع والخفض في التفعيلة، وتقسم القصيدة إلى مقاطع يتناول كل منها معنى محدداً، وتعتمد الصورة الشعرية المؤثرة على تعدد الصفات وتلونها، على نحو يميل إلى المبالغة أحياناً، ولاسيما عند وصف الآلهة المؤنسنة من حيث عواطفها ونزواتها ورغائبها وعاداتها. ويبدو من التواقيع التي تذيل بعض الرُّقم أن ملك أوغاريت نيقمدو Niqmaddu الثاني (نحو 1350ق.م) قد أشرف بنفسه على تدوينها، إلا أن مؤلفها هو إيلي ميلكو Ili Milku كاهن أوغاريت الأكبر ورئيس مقدّمي القرابين والمطهرين، وقد صاغها بشكل دروس تلقى على أبناء الملك كتوجيهات ومواعظ في الأخلاق والعقائد الدينية وفي السياسة والسلوك الشخصي، وأطلق عليها اسم «اللآلئ»، وهي ملحمة تحكي أخبار الملك الذي امتد ملكه من أوغاريت حتى جنوبي فلسطين، وقاست البلاد في ظله أمرَّ الويلات نتيجة سوء تصرفه سخصياً وسياسياً، وثمة نص آخر بعنوان «دورة بعل» يعد تجسيداً لمعتقدات الخصب ودورة الطبيعة، فـالإله موت Mot يعتل الإله بعل Ba’al. ويمثل بعل المطر والرعد والريح في حين يجسد موت القحط والمحل والجفاف، فتنتقم الإلهة عناة Anat لأخيها وتقتل موت لكنهما ينبعثان مجدداً في مطلع الربيع ليخوضا الصراع ثانية. أما أكثر النصوص إنسانية فهو ملحمة «كِرْتَ» Kirta. فعندما يفقد الملك كِرْتَ جميع أبنائه يشمله رب الأرباب إيل El برحمته ويمنحه ذرية جديدة ويشفيه من أعتى الأمراض. وفي أسطورة دانيل Danel ينتج الصراع الدامي عن تصدي البطل نصف الإله أقهات Aqhat بن دانيل لرغبات الإلهة المحاربة عناة. وثمة نصوص كثيرة أخرى من نوع قصائد المديح أو الرثاء أو الابتهال.

على الرغم من أن اللغة الآرامية انتشرت من سورية ووادي الرافدين حتى بلغت الهند، ومع أنها صارت لغة الدولة في المرحلة الأخمينية، إلا أن دورها الحضاري على صعيد الأدب كان شبه معدوم، في حين أدّت دوراً بارزاً ولعدة قرون بوصفها اللغة الدبلوماسية بين الممالك ولغة الدواوين وسجلات الملوك والتبادل التجاري، وذلك حتى بروز أحد فروعها، أي السريانية، وارتباطه بانتشار الديانة المسيحية، انطلاقاً من سورية. وفي المرحلة نفسها لمع في سورية اسم الأديب والخطيب والفيلسوف لوقيانس (120-185م) Lukianos المولود في مدينة سميساط Samosata على الفرات، الذي وجّه في مؤلفاته العديدة نقداً ساخراً لاذعاً للظواهر السلبية التي انتشرت في سورية في زمنه كالفساد والتدهور الأخلاقي من جهة والانسلاب الديني من جهة أخرى، إلى جانب حماقة رجال السياسة وضحالة الفلسفة المزيفة المنتشرة آنذاك. كما برز اسم ملياغروس (130-60ق.م) Melegros الذي ولد في بلدة جدارة وقضى حياته في صُوْر يقرض الشعر وينظم الحِكمَ وينشر آراء الفلسفة الكلبية Cynicism، وجمع حكمه المنظومة في كتاب «الإكليل» Stephunos فصار نموذجاً لمجموعات مماثلة.

يحتل الأدب السرياني المكانة الأبرز في إطار آداب المسيحية المشرقية، سواء من حيث القدم، أم الحجم والأهمية، إذ كان أول إنجازاته ترجمة «العهد القديم»، لكن من رفع السريانية إلى مرتبة اللغة الأدبية هو لاشك بَردَيصان (154-222م) Bardaisan الغنوصي صاحب «كتاب القدر» و«نشيد اللؤلؤة» الذي يعد من دُرر السريانية الأصيلة. أما ماني (216-222) Mani مؤسس المانوية Manism فقد وضع مؤلفاته كافة بالسريانية. وما يميز الأدب السرياني في المقام الأول هو اهتمامه بالموضوعات الدينية المسيحية وكون غالبية مبدعيه من رجال الكنيسة أو اللاهوتيين. وقد بلغ هذا الأدب أولى ذُراه في قصائد القديس أفرام (306-373م) في مديح السيدة العذراء، وكذلك في مؤلفاته النثرية، وقد وُصِف لرقة شاعريته بـ «قيثارة الروح القدس». وكان من أبرز أتباعه ومقلديه الشعراء قوريلونا Qurillona (نحو 400م) وبالاي Balai (نحو 432م) وماروثا Marutha (نحو 400م). وقد أدى مجمع خلقيدونية عام 451م إلى انقسام الشعب السرياني إلى يعاقبة غربي سورية ونساطرة شرقيها، وقد تعمق هذا الانقسام بهيمنة بيزنطة على غربي سورية، وفارس على شرقيها. وفي حماة الصراع بين المذهبين برز اسم فيلوكسينُس Philoxivos المنبجي (المتوفي 523م) الذي يمثل كلاسيكية الأدب السرياني بكتبه التي أنافت على الثمانين. وعندما دخل السريان في ظل الفتوحات الإسلامية كانت ذروتهم الأدبية قد أفلت. وفي هذه الحقبة لعبت السريانية دور الوسيط بين الحضارة اليونانية والحضارة العربية الإسلامية الفتية عن طريق ترجمة أمهات الكتب العلمية والفلسفية والأدبية من اليونانية إلى العربية، مما ساعد في سرعة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وانتشار اللغة العربية في البلدان المفتوحة. ومن أبرز أدباء هذه الحقبة القديس يوحنا الدمشقي (675-749م) الذي كتب في الفلسفة والخطابة والشعر ومهّد بمؤلفاته لنشأة تعليم اللاهوت في أوروبا. وفي هذه المرحلة ظهر عدد من الأدباء السريان ذوي اللسانين، الذين ألفوا كتبهم ونظموا أشعارهم بالسريانية والعربية، ومنهم ديونيسيوس بن الصليبي (1154-1171م) وابن العبري (1126-1286م) الذي يعد من أبرز وأغزر الأدباء السريان في اللغتين من حيث القيمة الأدبية والفكرية، وفي ظله سار عبد يشوع بن بريخا أسقف سنجار الرمة في نجد (المتوفى 1318م) صاحب كتاب «جنة عدن». وعلى إثر الغزو المغولي ثم الهيمنة العثمانية تراجع الأدب السرياني ولم تعد هناك إبداعات جديدة تستحق الذكر.
نبيل الحفار

الموسوعة العربية

مواضيع ذات صلة: