ديك الجن الحمصي

عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الملقب بديك الجن. شاعر مجيد من شعراء العصر العباسي، ولد في حمص وفيها كانت وفاته.

كثرت الروايات في سبب تسميته ديكَ الجنِّ، فمنهم من ربط بين ألوان الديك المتنوِّعة وعيني عبد السلام الملونتين (الخضراوين)، وهذا ما ذهب إليه الزبيدي وابن عساكر. ويرى بعضهم أنه عُرف بديك الجن لأنه رثى ديكاً لأبي عمرو عمير بن جعفر ذبحه وعمل عليه وليمةً. وهذا ما ذهب إليه الشيخ محمد السماوي أوَّل من جمع ديوانه. ومنهم من ربط بين جنونه وتقليده صوت الدِّيك، ولكن دارسيه أجمعوا على بطلان هذا السبب، والاتفاق على أنه لُفِّق بعد وفاته، لأنَّهُ لم يعرف عنه الجنون قط.

ثمة شبه إجماعٍ من مترجميه ومؤرِّخيه على أنه كان شعوبياً شديد العصبيَّة على العرب، وقد ذكر له أبو الفرج الأصفهاني قوله: «ما للعرب علينا فضلٌ، جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم (عليه السلام)، وأسلمنا كما أسلموا... ولم تجد الله عز وجلّ فضَّلهم عليهم، إذ جمعنا الدين».

من الغريب أن يصدرَ مثل هذا الموقف والكلام عنه في حين أنَّ ظاهر شجرة نسبه وأصول أسرته تدلان على أنه جزء من نسيج المنطقة العربيَّة وقبائلها، فأسرته تعود في أصولها إلى قرية مؤتة التي هي من قرى الشام، وتقع اليوم شمالي الأردن. ولكن ديك الجن يحسم الموقف عندما يعلن بصريح العبارة عدم انتمائه للعرب من أيِّ باب بقوله الذي ورد في كل طبعات ديوانه:

إنْ كَانَ عُرْفُكَ مَذْخُوراً لِذِي سَبَبٍ

إنَّي امْرُؤٌ بَازِلٌ فِي ذُرْوَتَيْ شَرَفٍ

فَاضْمُمْ يَدَيْكَ فَإنَّي لَسْتُ بِالعَرَبِي

لِقَيْصَرِ وَلِكِسْرَى مَحْتَدِي وَأَبِي


لا يذكر الرواة شيئاً عن المراحل المبكرة من حياته، وما يمكن قوله عنها لا يعدو كونه استنتاجاً منطقياً تدلُّ عليه طبيعة شعره بما انطوت عليه من ثقافةٍ تُنْبِي عن كونه قدْ قضى ردحاً غير قليل في تلقي العلم في المساجد شأنه شأن أقرانه ورصفائه في عصره.

أمَّا شبابه وشوطٌ غيرُ قصيرٍ مما بعد الشَّباب، فقد قضاه منكباً على الملذَّات والشَّهواتِ بمختلف أنواعها وميادينها على نحوٍ ربما قلَّ نظيره، ولكن إذا كان ثمة إمكانٌ لتجاوز سيرة أي مبدع ومعظم محطَّات حياته فإنَّ أمراً واحداً يعسر تجاوزه في حياته وهو قصَّته مع حبيبته وزوجته ورد.

اختلف المؤرِّخون في اسم هذه الحبيبة ودينها ونسبها ومكانها ومهنتها. أقرَّت الأغلبيَّة أنَّ اسمها وردٌ، وليس ما بعد ذلك مهمٌّ، فقد تزوجها عبد السَّلام، وهام في حبِّها، ومن أوائل ما قال فيها:
اُنظرْ إلى شَمْسِ القُصُورِ وبَدْرِها

لم تَبْلُ عينكُ أبْيَضاً في أَسْوَدِ

وإلى خُزَاماها وبَهْجَةِ زَهْرِها

جَمَعَ الجَمَالَ كَوَجْهِهَا في شَعْرِها


ولكنَّ عسرا أصابه بعدما بدَّدَ ما بدَّدَ على مجونه في الملذَّات. فاضطر للرحيل بحثاً عن الرِّزق، وطال غيابه، فانتهز ابن عمِّه غيابه لتلفيق تهمة الخيانة لزوجته ورد، وحبك التهمة جيِّداً، وشاعت بين النَّاس فعاد ديك الجن وتسرَّع فاستلَّ سيفه وقتلها، وقال في ذلك أكثر من قصيدة، منها قوله:
خُنْتِ سِرِّي مُوَاتِيَهْ                   خُنْتِ سِرِّي ولَمْ أَخُنْكِ
وَالْمَنَايَا مُعَادِيَهْ                    فمُوْتِيْ عَلانِيَهْ    


إلاَّ أنه سرعانَ ما استيقنَ من براءة ورد فندم، ومكثَ شهراً لا يستفيق من البكاء، ولا يأكل من الطَّعام إلا ما يقيم رمقه وقال في ندمه على قتلها:
يا طَلْعةَ طلَلَعَ الحِمَامُ عليها
رَوَّيْتُ مِنْ دَمِها الثَّرى ولَطالَمَا

وَجَنَى لَهَا ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْها
رَوَّى الْهَوَى شَفَتَيَّ من شَفَتَيْها


لَقَد ظلَّت هذه الحادثة جرحاً نازفاً في حياته ما بقي من عمره، فلم يقل بعد ذلك شعراً إلا فيها. ولاسيما أن ورداً هي حبُّه الصادق الوحيد في خضم مغامراته الماجنة الكثيرة. بل تحولت الحادثة إِلى كابوس لا يفارقه في نومه ولا في صحوه. ولا عجب أن تغدو هذه القصَّة عرضةً لكثير من التغيير والتبديل من الرواة، وملهمة لكثيرٍ من المبدعين الذين أعادوا صوغها في قصائد وقصص ومسرحيات.

ينقسم شعر ديك الجن كشعر غيره من الشعراء إلى الأغراض التقليدية المعروفة الموزَّعة بين غزل ومدح وقدح ووصف ورثاء... ولكنَّه كغيره أيضاً من الشعراء له خصوصيته التي تتيح تقسيم شعره إلى أبواب عريضة مميزة أو تستوعب الأغراض الشعرية التي أتى عليها. وبهذا المعنى يمكن توزيع شعره على ثلاثة أبواب كبيرة هي مدح آل البيت وورد وأغراض المجون.

أمَّا مدحه آل البيت فقد اختلف الباحثون فيه بين مؤكِّد تشيُّعه ومؤكِّدٍ أنَّ مدحه آل البيت إنَّما كان إغاظةً للحكام الذين كانوا على خلاف معهم. ومن جميل قوله في هذا الغرض قوله:
نَفْسِي فِداءٌ لَكُمْ وَمَنْ لَكُمُ
أَنْتُمْ بُدُوْرُ الْهُدَى وأَنْجُمُهُ

نَفْسِيْ وَأُمِّيْ وَأُسْرَتِي وأَبِيْ
وَدَوْحَةُ الْمَكْرُمَاتِ والَحَسَبِ


ذهب النقاد إلى أن ديك الجن يقف في طليعة شعراء القرن الثالث الهجري، وأنه أبرزهم في رثاء آل البيت، ولم يجاره في ذلك إلا السيد الحميري.

لم يكن ديك الجن بشهرة تلميذه النجيب أبي تمام، ولكنه لم يكن مغموراً على أي حال فقد سعى كبار شعراء عصره لزيارته والاتصال به أمثال أبي نواس ودعبل الخزاعي وأبي تمام الذي حافظ على صلته به. ومكانته بينهم لا تقلُّ عن أي واحد منهم، وقد شهد له معاصروه بذلك، بمن فيهم هؤلاء الشعراء. وشعره يقوم دليلاً على أنه شاعرٌ موهوبٌ لا أثر للصنعة فيه ولا التكلف، وصفه أبو الفرج الأصفهاني بقوله: «هو شاعر مُجِيدٌ، يذهب مذهب أبي تمام والشاميين في شعره»، وقال ابن خلكان: «شعره في غاية الجودة».

ويرى دارسوه أنه «أظهر ميزة في شعره إشراقةُ المطالع، وجزالة اللفظ وعذوبته، وتدفُق العاطفة الشَّفَّافة، وحرقة اللوعة اللاهبة... إلى جانب ما فيه من متانة في السبك».

لم يؤثر عن ديك الجن إلا شعره الذي جمع في ديوان صدر في أكثر من طبعة، وأكثر من تحقيق. كان عبد المعين الملوحي أول من عكف على جمع أشعار ديك الجن وتحقيقها وإصدارها.