جامع الشيخ محي الدين

يقع جامع الشيخ محي الدين بن عربي في منطقة الصالحية - الشركسية، وقد أمر ببنائه السلطان العثماني سليم الأول يوم دخل دمشق، بعد أن رأى المتصوف الكبير في منامه طالباً منه إقامة مقام على ضريحه.

الموقع الجغرافي


يقع جـامع الشـيخ محـي الـدين (جامع الخنكار أو جامع السليمي) في حي الشيخ محي الدين بمنطقة تعرف بالصالحية – الشركسية التي بناها (المقادسة)، وهم جماعة وفدت من القدس إلى دمشق وتوطنت بداية حول جامع أبو صالح في منطقة باب شرقي، ثم انتقلت إلى المناطق الجبلية على سفح قاسيون، بعد تفشي مرض الطاعون بين أفرادها وهناك بنوا الصالحية، في العهد الزنكي.

قسمت منطقة الصالحية إلى قسمين، شمالي نهر يزيد، وجنوبي النهر، فكانت المنطقة الشمالية بعلية، توطن فيها الفقراء، والمنطقة الجنوبية مروية خصبة جعلها أغنياء دمشق منتزهات لهم في ذلك الحين. من أهم الملامح الحضارية لتلك المنطقة المدرسة العمرية والتي يجري ترميمها حالياً، وتعرف هذه المنطقة بغناها بالمدارس التي ترجع إلى القرنين السابع والثامن الميلادي، ويتجاوز عددها الـ300 مدرسة جميعها لتعليم القرآن، ومستشفى القيمري المبني في القرن السادس وهو أقدم مستشفى شاخص حتى اليوم في العالم، ولا زال يستعمل مركزاً صحياً، إلى جانب جامع الحنابلة الذي يعود لعام 610 هـ وكذلك مسجد الشيخ محي الدين المبني جانب الضريح، على ضفاف نهر يزيد والذي لم يبق منه اليوم سوى آثار لناعورة مياه بعد أن جفت مياهه، عند تربة المحيوي بن العربي ولصيق البيمارستان القيمري من جهة الشرق.

لـمحة تـاريخية


وهو أول جامع عثماني بدمشق وقد أمر ببنائه السلطان سليم الأول يوم دخل دمشق سنة 924هـ - 1518م، ويقال أن السلطان سليم رأى الشيخ محي الدين في منامه وأمره ببناء مقام له فوق الضريح، وعندما سأله السلطان عن مكان قبره أجاب الشيخ اتبع بغلتك البيضاء وهي تدلك عليه.والعرف الشعبي عند السلاطين المسلمين يفيد بأنهم عادة ما كانوا يقتنون بغلة بيضاء تيمناً بالرسول. وتقول الحكاية أن السلطان سليم الأول تبع بغلته البيضاء فدلته على المكان الذي يعتقد أن الشيخ ابن عربي قد دفن فيه منذ 200 عام.

كان البناء في الأصل تربة ابن الزنكي قاضي القضاة ومعه معلم السلطان شهاب الدين بن العطار وجماعته وهندسوها لبناء جامع بخطبة إشارة الخنكار، ثم هدم المسجد الذي جدده شهاب الدين بن الصميدي، وفي الأول من شباط وضع منبر الجامع الجديد المذكور.

من هو الشيخ محي الدين؟


الكتب التاريخية الموثقة تثبت بأن الشيخ محي الدين بن عربي هو أبو بكر محمد بن علي الطائي الملقب محي الدين من أحفاد حاتم الطائي، ولد في مرسية عام 560هـ وتروي الكتب سيرة انتقالاته بين الشرق والغرب. فقد ارتحل من مرسية سنة 568 هـ إلى أشبيلية مع عائلته والتقى فيها مع ابن رشد مرتين وذكر الحوار الذي دار بينهما في فتوحاته المكية.

غادر اشبيلية في 598 هـ متوجهاً إلى المشرق. وكانت أولى محطاته في مراكش حيث صادف وفاة ابن رشد. نزل بجاية، في الجزائر اليوم.. ثم توجه إلى مصر وأقام في زقاق القناديل، بجوار مسجد عمرو بن العاص، وهناك تلقاه العلماء ورجال الفقه بالجفاء، فلم ينالوا من مكانته شيئاً. حل بالحجاز ومن ثم مضى إلى العراق حيث اجتمع بالشيخ عمر السهروردي، الذي قال عنه: إنه بحر الحقائق، أما ابن عربي فقال عن السهرودي: إنه مملوء سنة من رأسه إلى قدمه. من الموصل توجه ابن عربي إلى حلب، ثم صعد الأناضول،. من ثم عاد إلى حلب واجتمع بحاكمها الظاهر غازي بن صلاح الدين. استقر رحال الشيخ في دمشق ولم يغادرها حتى وفاته سنة 638 هـ 16 تشرين الثاني 1240 م عاش مع زوجته مريم وولداه سعد الدين وعماد الدين.

وفي رسالة لعلي بن كمال الدين أبى المنصور الأزدى الأنصاري وصف للشيخ محي الدين يقول: «رأيت في دمشق الإمام العارف الوحيد محي الدين بن عربي وكان من أكابر علماء الطريق، جمع بين العلوم الكسبية، وما وفر له من العلوم الوهبية، ومنزلته شهيرة وتصانيفه كثيرة، وكان غلب عليه التوحيد علماً، وخلقاً، وحالاً لا يكترث بالوجود مقبلاً كان أو معرضاً».

ألف أبن عربي 400 كتاب ورسالة ومؤلفه الأكبر (الفتوحات المكية) ضَّمنه ما فتح عليه من الأفكار في مكة وأقدم طبعاتها في مصر 1910 بتوصية من الأمير عبد القادر الجزائري ومن أنفس مؤلفاته بعد الفتوحات (فصوص الحكم ).

رغم أن التاريخ يؤكد وفاة الشيخ محي الدين على فراشه بعد بلوغه سن الشيخوخة، كما ورد في سيرة حياته المدونة على جدران الضريح، إلا أنهم ينسبون إليه حادثة عرفت عن الحلاج، وهي أن ابن عربي وقف أمام الناس وصاح بهم: دينكم ديناركم ومعبودكم تحت قدمي هاتين فقتلوه، وجاء بعدها العلماء وسألوا عن سبب القتل، وطلبوا حفر الموقع الذي قال فيه ابن عربي ذلك القول، فوجدوا جرتين مملوءتين بدنانير من ذهب، فأنبوا القتلة وقالوا لهم، كان بقوله يقصد المال الذي تتخذونه كمعبود لكم.

تعمق الشيخ الأكبر في فلسفة الحروف وإتقانه استعمال اللغة واستنباط معانيها والإيحاء من خلال المفردات المتشابهة كتابة والمختلفة لفظاً ورصفها في إيقاع متناغم شديد الدلالة.

الـوصف المعـماري:


يعد جامع محيى الدين بن عربي المقام على سفح قاسيون في دمشق من أعظم الجوامع وأقدمها. رممه السلطان سليم العثماني عندما فتح دمشق، وكان الجامع يومها عبارة عن عمارة فيها منبر صغير ومحراب منيف دفن فيه «ابن عربي»، ولأجله جدده السلطان وعين له أربعة مؤذنين وثلاثين قارئاً، وأصبح بذلك من أعظم المساجد في تلك الفترة.كان للجامع باب من الحجارة الضخمة كتب عليه -هذه العبارة: (الحمد لله أمر بإنشاء هذا الجامع الشريف الإمام الأعظم ملك العرب والعجم خادم الحرمين الشريفين السلطان سليم بن السلطان بايزيد بإشارة محمد بدرخان خلد الله ملكه وسلطانه، كان ابتداء عمارته في التاسع من شوال سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة والفراغ منه في الرابع والعشرين من محرم سنة أربع وعشرين وتسعمائة).

والجامع مؤلف من صحن كبير وجميل مرصوف بالرخام الملون والحجر الأبيض والأصفر وفيه بركة صغيرة، وفي الجهة الغربية منه رواق كبير يقوم على أربع قناطر عالية، وإلى الجنوب الحرم الذي يقوم على خمس قناطر وأربعة أعمدة جيء بهم من عمارة نائب الشام جان بلاط وعلى رؤوسهم خمسة قناطر، وفي قبليه أربعة شبابيك مطلة على ساحة على نهر يزيد، وفي شرقيه شباك آخر مطل على جنينة وله محراب خشبي عادي وسقف خشبي مسنم وجدران مزخرفة بالقاشاني والرخام الملون المنقوش.

- نجد في الجدار الشمالي للحرم ثلاثة أبواب أوسطها هو الأكبر ومبنية من حجر أبيض وأصفر وبصحنه ثلاثة أواوين، وفي طرفها الشرقي سلم لباب ينفذ لضريح المحيوي تحت القبو، وتحت هذا القبو شباكان أحدهما قبلي مطل على الجنينة والآخر شرقي مطل على قبر الشيخ محمد الحنفي، وعند طرفها الشرقي الشمالي باب ينفذ لخلوة الوافدين، وفي وسط شمالها باب مدخل الجامع وإلى الغرب منه بيت البواب، وفي شرقيه باب المئذنة وهي مركبة على باب الجامع ومبنية من حجر أبيض وأسود وواجهة الباب من حجر أسود وأبيض وعتبة من رخام.

- الجدار الجنوبي للحرم: يحوي محراباً في الوسط يعلوه شريط كتابي له إطار زخرفي من الأعلى والكتابة هي بداية سورة الرحمن بعد البسملة، وهي بخط الثلث الجميل بلون أبيض محدد بالأسود والخلفية بالأزرق تزينها زخارف نباتية بلون فيروزي.

- الجدار الشرقي: وهو مكسو بالقاشاني ما عدا نافذة في الوسط وتقسم هذه الكسوة لقسمين:
لوح مؤلف من عدة بلاطات تحوي عدة رسومات منها رسمة شجرة السرو، ولوحة أخرى مؤلفة من عدة بلاطات فيها ثلاثة أقواس تعلوها كلمات: الله أكبر، عمر و ويفصل بين الأقواس مئذنتان.
أما البلاطات الثلاثة الدنيا فتحوي الوسطى منها مزهرية وإلى اليمين سروتان عاليتان وتحتهما اسم عثمان وإلى اليسار مثلهما وتحتهما اسم علي.

- الجدار الغربي: إن كسوة هذا الجدار مقسومة لقسمين تفصلهما مكتبة جدارية، ويعلو الكسوة فوق المكتبة شريط بطول 72سم مؤلف من لوحة لليمين عليها رسم نجمة مصلبة ولوحة لليسار عليها رسمة نجمة تحيط ببلاطات ذات زخرفة قرنفلية.

وفي الوسط لوحة كبيرة مكتوب عليها في سطرين آية الكرسي بعد البسملة، والقسمان السفليان مكسوان ببلاطات السرو، وكل هذه البلاطات نفذت بالأسلوب الدمشقي وبألوان مثل الأبيض والأزرق والفيروزي فقط، وتمتاز هذه الكسوة باللوحات التصويرية المتكررة والكتابية وهي تعود لعهد بناء الجامع، وبالتالي فهي استمرار لتقاليد صناعة الخزف التي ازدهرت في العهد المملوكي.

- ألواح حرم الجامع: في حرم الجامع وفوق الجدار الشمالي ثلاث سجاجيد دون إطار مؤلفة من عدة بلاطات اثنتان منها مؤلفة من عروق وأزهار القرنفل وعدد بلاطاتها 35، واحدة منها عليها كتابة بيضاء والثانية مؤلفة من 35 بلاطة ذات زخرفة هندسية مؤلفة من نجمة ثمانية زرقاء محاطة بأشكال هندسية بيضاء وسوداء وأرضية اللوحات بيضاء.

وفي الزاوية الجنوبية الشرقية للجامع هناك سلم حجري ينزل منه إلى قبة الضريح - ضريح ابن عربي- الذي يتوسط الغرفة المزخرفة، وحول القبر شبكة من الفضة المزخرفة. وإلى جانبه قبر ولديه سعد الدين وعماد الدين وإلى اليمين قليلاً كان يتوضع قبر الأمير عبد القادر الجزائري، ولهذه القبة شباكان قبلي مطل على الجنينة المذكورة وشمالي مطل على تربة وفيها تابوت مركب على قبو قبالة قبر المحيوي المذكور، وفي غربي المصلى خلوتان إحداهما وهي القبلية بيت الخطابة وثانيهما للمتولي.

في غرفة الضريح تجد هناك بعض البلاطات القاشانية التي صنعت في دمشق والتي تكسو جدران إيوان يمتد من قبة الضريح وتغطيه قبوة نصف اسطوانية.

وهناك أيضاً مئذنة جامع الشيخ محيي الدين وتعتبر المئذنة «الأم» للعهد العثماني، شيدها السلطان سليم الأول عام 929هـ / (1518م) مع الجامع فوق ضريح الشيخ محيي الدين في حي الصالحية بدمشق وهي تتميز بفن زخرفي حتى اعتبرها الكثير واحدة من أجمل المآذن المقامة في دمشق.

ولقد زود المسجد بناعورة ذات بكرات، مازالت قائمة حتى اليوم.

وهي الوحيدة الباقية حتى اليوم في حي النواعير في الصالحية على نهر يزيد وكانت تغذي الجامع. والناعورة من تصميم العالِم الفلكي المشهور تقي الدين محمد بن معروف 1525-1585م. تتألف من دولاب ضخم يدوره بقوة دفع مياه نهر يزيد، فيدير بدورانه مسنناً ضخماً من الخشب صنع بطريقة فنية وبقياسات علمية دقيقة، ويدير هذا الدولاب دولاباً آخر من قمة البرج ربطت به سلسلة حديدية علقت بها دلاء يملأ بها الماء من النهر وتفرغ في حوض في قمة البرج، حيث تسير في قناة محمولة على جسر مقوّس إلى خزان للمياه، ومنه توزع المياه إلى الجامع والميضأة وإلى التكية السلمية التي أنشئت إلى جانب الجامع في زمن السلطان سليم، لإطعام الفقراء.

وتصل مياه الناعورة أيضاً إلى بيمارستان القيمري الذي يعود إلى العصر الأيوبي.

التكية:


التكية: بني مقابل الجامع تكية للفقراء من الرجال والنساء وثلاثة حواصل للمؤن ومطبخ كبير، وفيه فرن يخبز قنطارين في اليوم، في هذه التكية كان يحضر حساء الشيخ محي الدين، ويوزع على الفقراء.

مواضيع ذات صلة: