الدولة الأيوبية

كان وصول صلاح الدين الأيوبي لمنصب الوزارة الفاطمية، المرحلة الأولى لتأسيس السلطنة الأيوبية. وتعرض صلاح الدين لبعض المضايقات في أول حكمه، لكنه استطاع أن يتخلص منها، إذ تخلى بعض قادته عن وظائفهم حسداً، فضعف جيشه في مصر، لكن نور الدين أمده بفرق جديدة، بقيادة أخيه توران شاه وأبيه أيوب؛ فسيطر على مصر بشكل تام وقضى على الحركات المضادة له وتخلص من كبار الإقطاعيين وأحل جماعة من رجاله من أهل الشام، كما تعرض صلاح الدين في هذه المرحلة إلى هجمة صليبية بيزنطية ولكنه استطاع أن يرد المهاجمين وأن يثبت أقدامه في مصر. ومن ثم قرر صلاح الدين، بموافقة الخليفة العباسي، إسقاط الخلافة الفاطمية فيها. وتم ذلك في محرم عام 567هـ/10أيلول عام 11071م.
كان سقوط الخلافة الفاطمية حدثاً خطيراً في تاريخ العالم العربي الإسلامي؛ فقد عادت وحدة الخلافة، وأصبحت الخلافة العباسية هي الوحيدة، التي يدين لها المسلمون بالولاء، كما قام صلاح الدين بتوسيع أملاكه في المنطقة وذلك للسيطرة على منافذ البحر الأحمر وتسهيل التجارة وتنشيطها والقضاء على بقايا أتباع الفاطميين، ففتح اليمن والنوبة.
في شوال عام 569هـ/منتصف أيار عام 1174م، توفي نور الدين فجأة في مدينة دمشق ودفن فيها بعد أن غرس غرسة طيبة في توحيد مصر والشام لقتال الصليبيين.
صلاح الدين وتأسيس السلطنة الأيوبية
حين توفي نور الدين زنكي، بويع ابنه الصالح إسماعيل بالسلطنة، فلم يستطع السيطرة على أملاك أبيه بكاملها، كما كانت بلاد الشام، موزعة بين الأسرة الزنكية والصليبيين. وقد اتخذت كل مدينة كبيرة من مدن الشام، موقفاً خاصاً بها تجاه انضمامها للصالح إسماعيل، كما تعرضت مدينة حلب لفتنة داخلية. وقد أدى هذا إلى اضطراب في أحوال بلاد الشام؛ فوجد صلاح الدين الفرصة سانحة أمامه للتحرك، فتوجه نحوها للحد من أطماع الفرنج في البلاد ولتوحيد ممتلكات نور الدين، التي أضحت تمتد من حلب إلى اليمن، ومن ثم تحرير بيت المقدس من الصليبيين، فتمكن من ضم مدينة دمشق وحمص وحماة، لكنه حين وصل إلى حلب وجد مقاومة كبيرة، فألقى عليها الحصار ثلاث مرات متتابعة، توصل بعدها في مطلع عام 572هـ/1177م إلى عقد صلح، أصبحت بموجبه حلب وأعمالها للصالح إسماعيل ومصر وبلاد الشام الجنوبية، حتى حماة لصلاح الدين. ثم ما لبثت الظروف أن سنحت له بضم حلب والموصل وبهذا حقق صلاح الدين الوحدة بين مصر والشام واليمن والجزيرة. ولم يتوقف صلاح الدين في فترة التوحيد نهائياً عن قتال الصليبيين، بل كان يعمل على حماية مصر والشام منهم وجرت بينه وبينهم في هذه الفترة معارك كان بعضها على جانب من الأهمية. لكنه بعد أن أنهى عملية التوحيد، قام بتحرير أجزاء واسعة من بلاد الشام من نير الصليبيين وخاض ضدهم المعركة المشهورة باسم حطين، ومن أسبابها المباشرة أن حاكم الكرك والشوبك الصليبي المعروف باسم «رينودي شانتيون» والذي يطلق عليه العرب اسم «أرناط»، أراد أن يسيطر على الطريق التجارية والدينية إلى مكة، فقام من أجل ذلك بهحومين فاشلين. عندها اتخذ صلاح الدين قراره الحازم بفتح الكرك وإبعاد أرناط عن الطريق التجاري وأقسم أن يقتله إن وقع في يده لاستهتاره بالمسلمين ومعتقداتهم.
جمع صلاح الدين جموعه وهاجم طبرية، ثم عسكر بالقرب من جبل يدعى «قرنا حطين» واستدرج الصليبيين إليه لإحكام الطوق عليهم وإبعادهم عن مصادر الماء في فصل صيفي قائظ؛ فنجحت خطته وانتصر عليهم انتصاراً حاسماً في 25 ربيع الآخر عام 583هـ/4 تموز عام 1187م، وأسر قادتهم وعدداً كبيراً من البارونات وفرسان الداوية والأسبتارية، ثم قتل أرناط براً بيمينه ورعى بقية الملوك والأمراء. كانت حطين من أكبر الضربات، التي نزلت بالصليبيين، فقد تمكن العرب المسلمون من تحطيم قوتهم الضاربة، وفتحت أمامهم الطريق لاستعادة أراضيهم. وقد أظهروا حسن معاملتهم لأعدائهم، انطلاقاً من مبادئ الأخلاق والرحمة والتسامح وهو الأمر الذي شهد لهم به جميع المؤرخين الغربيين والشرقيين على السواء. سيطر صلاح الدين، إثر هذه المعركة على إقليم الجليل وأصبحت مملكة بيت المقدس مفتوحة أمامه؛ فتوجه إلى عكا، التي سقطت بيده دون قتال، فأمن سكانها على أنفسهم وأموالهم وخيَّرهم بين الإقامة أو الرحيل، ومن ثم اتخذها مركزاً لانطلاق جيوشه إلى المعاقل القرية؛ ففتحها ولم ينته عام 583هـ/1187م، إلا وكان قد حرر الساحل برمته من بيروت إلى عسقلان عدا مدينة صور، إضافة إلى مدن وحصون داخلية.
لقد كان للمعاملة الحسنة، التي عامل بها صلاح الدين أهالي عكا وطبرية، الأثر الأكبر في سقوط المدن الساحلية متتابعة في يده، كما أنه عمل على الحفاظ على النشاط التجاري في المدن، مما أدى إلى تقدم أحوالها الاقتصادية.
استطاع صلاح الدين بعد معركة حطين أن يحرر بيت المقدس دون إراقة الدماء بعد أن أعطى من فيها من الصليبيين مواثيق، بدا فيها تسامحه الكبير وكان الفارق هائلاً بين دخول صلاح الدين إليها واحتلال الصليبيين لها، الذين لم يرعوا حرمة ولم يحفظوا عهداً.
تسلم صلاح الدين بيت المقدس في 27 رجب عام 583هـ/تشرين الأول عام 1187م، ثم تسلم القلعة وما لبث أن توجه إلى صور لفتحها، فلم يتمكن لأمور تعلقت بتجمع الصليبيين فيها وتوحيد قوتهم بزعامة كونراد دي موتفرات. ويمكن القول إن صلاح الدين الأيوبي، تمكن في هذه الفترة من تقليص الإمارات الصليبية الثلاث إلى حد كبير، ولكنه ما لبث أن مُني بنكسات في فتوحاته، منها استرجاع الصليبيين لمدينة عكا. وساعدهم على نجاحهم وصول الحملة الصليبية الثالثة بقيادة «فيليب أوغست» و«ريتشارد قلب الأسد»، وعلى الرغم من البطولات، التي أبدتها حامية المدينة العربية الإسلامية والوسائل الدفاعية والهجومية، التي ابتكرها العرب المسلمون، فقد دخل الصليبيون عكا في 17 جمادى الثانية عام 587هـ/2 تموز عام 1191، بعد حصار دام عامين تقريباً، فعاد الصليبيون إلى عادتهم في القتل والتخريب واتخذوا من عكا قاعدة لمملكة بيت المقدس. بعد نصر عكا حاول ريشارد احتلال ساحل فلسطين ثانيةً؛ فاستولى على حيفا وقيسارية وأرسوف وحاول احتلال بيت المقدس أكثر من مرة فأخفق، كما حاول تحقيق ما عجز عنه بالقوة عن طريق المفاوضات ضمن شروط رفضها صلاح الدين وانتهى الأمر بينهما بتوقيع صلح الرملة لمدة ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر في 2 شعبان عام 588هـ/3 أيلول عام 1192م.
كان توقيع صلاح الدين لهذا الصلح بسبب كثرة الحروب وما عانته البلاد من ويلات سياسية واقتصادية. وما لبث المرض أن انتابه، فتوفي في 27 صفر عام 589هـ/3 آذار عام 1193م، فكان موته خسارة كبيرة للعرب والمسلمين، في هذا الوقت الحرج بالذات وترك فراغاً لم يستطع أحد من أبنائه وإخوانه أن يملأه بعد أن جعل السلطنة لابنه الأفضل نور الدين، الذي انشغل عن شؤون الرعية بأموره الخاصة وبالخلاف، الذي قام بينه وبين أخيه العزيز، فاستغل العادل أخو صلاح الدين النزاع لصالحه وأعلن نفسه سلطاناً على الأيوبيين في شوال عام 591هـ/آب عام 1194م، فتوحدت الجبهة العربية الإسلامية ثانية، وترتب على السلطان الجديد الوقوف في وجه الصليبيين الذين يرسلون الجيوش والنجدات إلى المشرق ويوجهون أنظارهم في هذه الفترة، باتجاه مصر بعد أن أدركوا أهميتها بوصفها القاعدة الكبرى، التي اعتمد الأيوبيون عليها في نشاطهم الداخلي والخارجي، تعرض العادل في أثناء سلطنته لوصول حملة صليبية جديدة، التي عرفت باسم الحلمة الخامسة والتي توجهت إلى دمياط وتولى الكامل بن العادل الوقوف في وجهها، لكن العادل توفي أثناء وجود هذه الحملة على مقربة من دمياط في 17 جمادى الأخرى عام 615هـ/آب عام 1218م، وخلفه في السلطنة ابنه الكامل، وكانت البلاد في خطر داهم. وأبدى الكامل تساهلات كبيرة في المفاوضات، التي أجراها مع الصليبيين لإبعاد خطرهم عن مصر. فقد عرض عليهم إحياء مملكة بيت المقدس الصليبية المنهارة باستثناء حصن الكرك ووادي عربة مقابل جلاء الصليبيين عن مصر، ولكن العرض رفض على الرغم من سخائه.
ولما ساء وضع الصليبيين بعد فتحهم لدمياط وتوجههم جنوباً باتجاه القاهرة وإخفاقهم، أرسلوا بدورهم إلى الكامل يعرضون استعدادهم للجلاء عن دمياط، مقابل السماح لهم بالخروج من مصر سالمين، فوافق الكامل، وجلوا عن مصر في 19 رجب عام 618هـ/7أيلول عام 1221م، وما إن تخلص الأيوبيون من هذه الحملة الصليبية، حتى عادوا ثانية إلى ما درجوا عليه من صرف قوتهم في المنازعات الداخلية لتحقيق مطامع إقليمية. وكانت هذه المنازعات من أخطر ما جرى بينهم، لأن كلاً من المتنازعين استنجد بقوة خارجية فاستنجد الكامل بالإمبراطور «فردريك الثاني»، طالباً منه مساعدته ضد أخيه الملك المعظم، مقابل إعطائه بيت المقدس وجميع فتوح صلاح الدين بالساحل.
وصل فردريك وكانت الظروف قد تغيرت بوفاة المعظم ومع ذلك اظهر الكامل تساهلاً في اتفاقية يافا، التي وقعت عام 625هـ/1228م والتي قضت بتسليم بيت المقدس بوضعه الراهن إلى فردريك الثاني، على أن يبقى المسجد الأقصى في يد المسلمين دون أن يحملوا فيه سلاحاً وتبقى جميع القرى حوله للمسلمين أيضاً. زادت هذه الاتفاقية من انحلال الدولة الأيوبية؛ فزالت فكرة السلطان الأكبر، الذي كان يعترف به وبسلطته جميع أفراد الأيوبيين وتبع ذلك محاولة كل أمير للحفاظ على إمارته ولو بالاستعانة بالأعداء.
تولى الحكم بعد الملك الكامل ابنه الملك بالصالح أيوب 637هـ/1239م وكان من أعظم سلاطين بني أيوب. وقد نقم على بعض الأمراء الأيوبيين، الذي تعاونوا مع الصليبيين وانتصر عليهم، كما انتصر على الصليبيين واستعاد منهم بيت المقدس عام 642هـ/1244م، مما أثار أوروبا ودفع بها إلى إرسال حملة صليبية جديدة، هي حملة ملك فرنسا، لويس التاسع، الذي نجح باحتلال دمياط، ثم زحفوا نحو القاهرة بعد ستة أشهر، تمكن خلالها المصريون من الاستعداد. وتوجه الملك الصالح إلى المنصورة وفي هذه الفترة الحرجة، توفي الملك الصالح سنة 647هـ/1249م ونجحت زوجته شجرة الدر بإنقاذ الموقف؛ فاخفت خبر وفاته ودبّرت الأمور باسمه، ريثما يصل ابنه الملك المعظم توران شاه، الذي نجح في إنزال هزيمة منكرة الصليبيين في معركة المنصورة عام 648هـ/1250م، ووقع فيها الملك لويس التاسع بالأسر مع معظم أفراد حملته. وافتدى نفسه بمبلغ كبير من المال والانسحاب من دمياط، بلا قيد ولا شرط. وانتهت حياة توران شاه بالاغتيال في العام نفسه، وبمقتله انتهت الدولة الأيوبية وحلت محلها دولة المماليك في مصر.

مواضيع ذات صلة: