تل العشارة (ترقا)

ترقا – تل العشارة 3000 – 700 ق. م
على ضفاف نهر الفرات الأوسط
مع نهاية عصر فجر التاريخ 3500-2900 ق.م وبداية عصر فجر السلالات الذي تميزت فيه مدن عدة في الهلال الخصيب، ولا سيما كيش وأوروك وماري وإإبلا ولاجاش وأور وبابل وأشور، وما نشأ من صراع مصالح بين هذه المدن- الدول، وطغيان الانتماء المديني وعدم نضوجه إلى وعي اتحادي, لم تستطع المنطقة أن تكوّن وحدة سياسية إلا في بعض الأحيان نتيجة الحاجات الاقتصادية والبيئية والمائية.
ونشأت عن هذه التناحرات والصراعات مراكز قوى استراتيجية في بعض المناطق الحساسة ولاسيما تلك التي تقع على خطوط التجارة والملاحة التي تصل الشمال بالجنوب والشرق بالغرب.
ومن هذه المدن أو المراكز كانت ترقا الواقعة في حوض الفرات الأوسط إلى الجنوب من مصب نهر الخابور في نهر الفرات.
تبعد ترقا حولي 60 كلم عن ماري - إلى الشمال – وتقع فوق تل يطلق عليه اسم تل العشارة.
أول الاكتشافات (صدفة) حصل العام 1910 على يد الرحالة الألماني أرنست هرتزفيلد الذي وجد رقيماً طينياً مسمارياً في التل، ويذكر هذا الرقيم وجود معبد للإله دجن في مدينة (تر - قا - كي) ترقا.
وفي العام 1948 عثر, بالصدفة أيضاً, على نصب حجري آرامي يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد.
وكل هذا لم يكن ليحدث لولا أن نهر الفرات ساهم في جرف حوالي نصف تل العشارة –عبر العصور- مما أدى إلى ظهور الآثار واللقى من باطن الأرض إلى سطحها.
التنقيب المنهجي بدأ العام 1974 بواسطة بعثة أميركية برئاسة الدكتورة تيريزا كارتر, ثم انتقل التنقيب إلى الدكتور جورجيو بوتشيلاتي ومارلين كيللي من جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلوس.
ويمكننا أن نحدد أهمية اكتشاف هذه المدينة بالنقاط التالية:
أولاً: أمدتنا الوثائق (الرقم المسمارية المكتشفة) بمعلومات مهمة تغطي فترة تمتد من سقوط ماري عام 1760 وحتى 1600 ق.م, وهي فترة انتابها بعض الغموض لعدم توافر الوثائق إليها ولاسيما في منطقة الفرات الأوسط وحوض الخابور الأدنى.
ثانياً : قدمت التنقيبات دليلاً آثارياً مهماً عن أضخم سور دفاعي لمدينة من الألف الثالث قبل الميلاد في منطقة الهلال الخصيب بأسرها.
ثالثاً : بعض اللقى الأثرية التي عثر عليها في المدينة قدم دليلاً على وجود تجارة مع الشرق الأقصى.

نتائج التنقيبات في تل العشارة:
تؤكد اللقى المكتشفة في التل على أن زمن نشوء ترقا يعود إلى 3000 ق.م, ولم يعثر على لقى تعود إلى ما قبل ذلك.
ولكن ثمة قرية قريبة منها عثر فيها على معطيات تعود للألف الرابع قبل الميلاد, ثم تنقطع هذه المعطيات مع حلول الألف الثالث قبل الميلاد، ربما انتقل سكان هذه القرية - لسبب ما - إلى ترقا.
كانت ترقا في الألف الثالث قبل الميلاد تشكل مركزاً مدنياً, والدليل على ذلك وجود سور دفاعي حصين وضخم يحيط بالمدينة يبلغ محيط السور 2 كلم وسماكته 20 متراً، ويتألف من ثلاثة أطواق من اللبن المتين, الطوقان الداخلي والأوسط مصفحان عند قاعدتهما بالحجر الكلسي، ويتقدم الطوق الخارجي فراغ يدور حول السور مشكلاً ممراً, وثمة أبراج تبرز إلى الداخل والخارج, وأحيط السور بخندق عريض.
التنقيبات أدت إلى العثور على قبرين لامرأتين يعودان إلى 2400 ق.م، وعثر في أثاثهما الجنائزي على حلي وفخار، كما عثر على منشآت حرفية وتخزينية وتنانير تعود إلى 2500 ق.م، وأوانٍ ولقى برونزية وبنتيجة التحريات أن سور المدينة جُدّد أكثر من مرة في ذلك الوقت.
و بدءاً من منتصف الألف الثالث قبل الميلاد أصبحت ترقا مركزاً للفاعلية التاريخية لماري التي كانت تسيطر على منطقة الفرات الأوسط وحوض الخابور من 2100-1760 ق.م . ويؤكد ذلك ما جاء في محفوظات ماري الملكية إذ عثر على حوالي 200 رسالة من ترقا موجهة إلى البلاط في ماري.
ومن المحتمل أن تكون ماري هي التي أسست ترقا كحصن دفاعي يحميها من الشمال بالإضافة إلى كونها مركزاً دينياً مهماً في منطقة الفرات الأوسط.
*و يعتقد أن السلالة العمورية التي حكمت ماري مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد عبر أول حاكم لها وهو يجيد- ليم ثم ابنه يخدون- ليم الذي حكم بين 1825-1810 ق.م قد نشأت في مدينة ترقا قبل أن تحكم مدينة ماري.
كانت ترقا تتبع فاعلية ماري خلال الألف الثالث قبل الميلاد، وكان لها أهمية اعتقادية كما احتفظت بوظائف سياسية في وادي الفرات الأوسط في الألف الثاني قبل الميلاد، إلى جانب وظيفتها الدينية.
و تشير المعطيات إلى مساهمتها في تأسيس وتنظيم النشاط والفاعلية الاقتصادية لمدينة ماري حيث تحولت إلى أحد المراكز الأساسية لمقاطعات مملكة ماري.
و تشترك ماري وترقا في أن سيد الأرباب في كلتيهما هو الإله دجن.
وقد قدم موقع ترقا أول رقيم مسماري يعود إلى حوالي 1900 ق.م حيث تحدّث عن غياب عدد من العمال لأسباب صحية.
بعد تدمير ماري يعتقد أن العائلة العمورية الحاكمة المتبقية من سلالة يجيد ليم عادت إلى موطنها الأصلي في ترقا.
ثمة لوحة تتضمن مشهداً طقسياً عثر عليها في ترقا هي بارزة ومصبوبة عثر على مثيلتها في ماري ما يؤكد أنهما صنعتا من قالب واحد، وهذا يشير الى مبلغ التداخل والعلاقة الوشيجة بين المدينتين.
حين استلم يجيد- ليم حكم ماري مفتتحا" حكم السلالة العمورية في ماري ، وقع في صراع مع ترقا عبر حاكمها إلا- كبكابو والد شمشي أدد، كان يجيد- ليم يريد ضم ترقا إلى فاعلية ماري المتصاعدة بحيث تم طرد إلا- كبكابو الذي توجه إلى بابل عبر إيمار ثم استولى ابنه شمشي أدد على مدينة آشور وشرع في تحقيق حلمه الملكي.
يخدون- ليم ابن يجيد ليم، لقّب نفسه ب ملك ماري وتوتول وبلاد خانا.
حصّن يخدون- ليم ماري وترقا بالأسوار والخنادق وحفر القنوات واضعاً نهاية للتقليد القائم برفع المياه للري.
في عهده كان هناك تحالفان في منطقة الفرات الأوسط حيث كان التحالف الأول يضم مدن إيمار – أباتم – توتول – سمانم، والثاني ضم ترقا – ماري – سكّاراتوم، وفي عصر زمري- ليم حلّ التفاهم بين الحلفين.
وقد تبعت توتول فاعلية ماري في عهد زمري- ليم وكانت تحاول التحالف مع إيمار ضد زمري- ليم ومصالح ماري، وكان ثمة توجه من توتول لتكون تابعة لفاعلية يمحاض حلب.
كانت توتول تشكل مركزاً دفاعياً مهماً لماري ومركزاً لصنع القوارب ومركزاً تجارياً مهماً عبر مينائها وفاصلاً بين إبلا وماري.
ذكّر حاكم ترقا ملك ماري زمري- ليم بأمر من الإله دجن أنه على الأخير تقديم القربان الجنائزي عن روح والده مرتين كل شهر.
بعد سقوط ماري 1670 ق.م تأسست في ترقا مملكة قوية عرفت بمملكة عانا حيث استمرت فاعليتها حتى 1500 ق.م، وقد أصبحت عاصمة إقليمية مهمة غير أنها لم ترقى إلى مستوى فاعلية ماري.
ظهر ماريون في موقع مملكة عانا حيث قدمت الوثائق أسماء لملوك صغار قد يكونون من ماري منهم : إيشارليم – إيكيش دجن.

*مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد " زمن الانقلابات الكبرى في الهلال الخصيب " على حد قول أندريه بارو، نجد أن الصراع المديني استحكم بين بابل وأشور، ونتج عنه سقوط ماري وسيطرة آشورية ممثلة بشمشي أدد (1812-1782 ق.م) ملك أشور الذي نصب ابنه يسمع أدد ملكاً عليها. وهذا استتبع بالضرورة سقوط بقية المراكز التابعة لماري تحت الفاعلية الآشورية.
و مع عودة زمري ليم ملك ماري إلى عرشه بعد موت شمشي أدد (1782 ق.م) عادت الفاعلية التاريخية لماري لتسيطر من جديد على توابعها.
ولكن هذا لن يستمر إذ أن الفاعلية البابلية كانت بلغت نضجها المديني وفاعليتها التاريخية، فسقطت ماري على يد حمورابي 1760 ق.م ودمرت نهائياً.
وقعت ترقا تحت التأثير البابلي لسنوات قليلة، ويبدو أن ثمة استقلالاً ذاتياً بدأ يظهر في ترقا بعد انتقال الفاعلية التاريخية من ماري إليها. وهنا ظهر اسم جديد لترقا هو خانا أو عانا, وأصبح ملك ترقا يلقب بملك خانا.
وبعد موت حمورابي امتد تأثير خانا وتوسعت حدودها السياسية خصوصاً في الجنوب مع حدود بابل الشمالية، وهذا ما تؤكده الوثائق المكتشفة العائدة لتلك الفترة.
و يظهر أن حجم مملكة خانا – ترقا، صار يعادل حجم مملكة بابل.
وصل التنقيب الآثاري حتى السويات المعاصرة لفترة ماري. ففي فترة شمشي أدد عثر على سدادة طينية تحمل اسم الملك شمشي أدد، كما عثر على رقيم طيني يحمل اسم شهر لم يستخدم إلا في أيام ذلك الملك.
وللفترة العائدة لحكم الملك كبري دجن في ترقا 1775 ق.م عثر على رقيم مسماري يتحدث عن إقامة مخزن للثلج (بيت الثلج) في ترقا أنشأه الملك زمري ليم، ورقيم يتحدث عن إنشاء الملك شمشي أدد لمعبد دجن في ترقا.
كما تم العثور على رقيم يتحدث عن جداول دوام لعمال غابوا عن عملهم لأسباب صحية وهو يعود إلى حوالي 1900 ق.م.
كما عثر أيضاً على معبد أسسه الملك قشتيلياش 1690 ق.م هو معبد نينكاراك، بالإضافة إلى بيت لرجل أعمال اسمه بوزوروم.
مخطط معبد نينكاراك يماثل المخططات المعمارية للنمط الرافدي، إذ أن قوائم الأبواب مفروزة والأعمدة مندمجة في الجدران. وعثر في المعبد على كنز مطمور محفوظ داخل حقيبة ويحتوي على 3737 خرزة متنوعة من العقيق والجاد واللازورد والكريستال الصخري والهيماتيت. وبعض هذه الخرزات يحمل أشكال حيوانات. ووجد أيضاً تمثال كلب مصنوع من البرونز وطبعة لختمين أسطوانيين يحملان اسم نينكاراك، وهو اسم سومري لرمز الشفاء.
بيت بوزوروم : جرف الفرات نصف هذا البيت، ويبدو أنه تعرض للحريق في الزمن الماضي إذ عثر بداخله على أثاث منزلي وأدوات باقية في مكانها منذ 3700 سنة وحتى الآن. يتألف البيت من باحة سماوية متوسطة وثلاث غرف. عثر في إحدى الغرف على مئة رقيم مسماري بعضها محفوظ داخل مظروف فخاري ممهور بخاتم.
تتحدث الرقم عن شؤون إدارية تخص شراء عقارات وبيعها.
وعثر أيضاً على 76 آنية فخارية في مكانها الأصلي، وهذا الاكتشاف يضيء على فخار ذلك العصر في المنطقة، ولهذا يعتبر كشفه مهماً. وفي إحدى الأواني عثر على " كبش قرنفل " والمعلوم أن هذا لم يستنبت آنذاك سوى في الشرق الأقصى، ولم يذكر في الهلال الخصيب إلا في العصر الروماني عند المؤرخ بلليني، مما يؤكد وجود تجارة مع الشرق الأقصى وبالتالي وجود طرق ملاحة وأسواق وأشخاص متخصصين في ذلك.
و لعل الاكتشاف المهم هو العثور على شبكة لتصريف المياه تقوم على كهريز عمودي قطره 80 سم، وثمة مجروران جانبيان يصبان فيه، وهو على عمق 10 أمتار حيث يصل إلى المياه الجوفية. ولوحظ أن هذه الشبكة مجهزة بحوض ومصافٍ توحي بوجود خزان مائي.
في الألف الأول ق.م
يبدو أن الآراميين استوطنوا المدينة في تلك المرحلة وأطلقوا عليها اسم سرقو (وتبعت فاعلية مدينة لاقي الآرامية)، وكانت تدفع الضريبة للآشوريين. وذكرت الحوليات الآشورية أن الجيش الآشوري سار لتحصيل الضرائب من الآراميين في سرقو, وعثر أيضاً على نصب حجري مكتوب عليه بالآرامية عن مرور جيش آشوري بقيادة الملك تيكولتي نينورتا الثاني حوالي 700ق.م.
و تنعدم الأدلة الأثرية من 700 ق.م وحتى 1200 ميلادية عندما نشأت قرية صغيرة في تل العشارة في العصر الأيوبي، دل على ذلك وجود بعض اللقى الفخارية المزججة و76 قطعة نقدية فضية تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي. ويعتقد أن اسم العشارة أطلق في تلك الفترة على هذا التل.


• هذه الدراسة الموجزة بمناسبة الرحلة النهرية الاستكشافية والأثرية والبيئية التي ستنطلق يوم 78 2008 من توتول إلى ترقا.


د. بشار خليف